«من بعد طول غياب»: ما معنى أن نؤمن اليوم؟

وردت في آخر مقال الأربعاء الفائت عبارة أثارت سؤال صديق لي، فسألني: كيف يمكن « إحراج تلك العدالة العليا، وإقلاق ذلك الخير الكلي،

وزحزحة ذلك المعنى الجاثم (...) باستنباتها في الإنسان بعد أن طال مقامها خارجه»؟. وللعبارة طبعا سياق معلوم يتبع عرض مسألة العدل في سياق الجدل الذي تعارض فيه أبو حيان التوحيدي مع مسكويه، في مسألة سماها أبو حيان «ملكة المسائل» وسمى الجواب عنها «أمير الأجوبة».
ولا بد من التنبيه أولا أن المقصود بالإحراج، والإقلاق والزحزحة ليس هو الأشياء المذكورة، قيما (العدالة العليا) ومثلا (الخير الكلي) ودلالات (المعنى)، وإنما هو فهمنا وتصورنا لها وتنزيلنا إياها. إننا لا يمكن أن نحرج عدالة عليا، ولا أن نقلق خيرا كليا، ولا أن نزحزح معنى راسخا، وإنما الذي نبدله هو فهمنا لها، وتمثلنا لمقامها، وإذا كان ثمة من طول غياب ، وبُعد مقام، فإنما هو غياب إقامة الفهم فينا على أنه «تمثل نحن نتمثله ونطرحه»، نحن الذين نبنيه، ونتصوره، ونضع معايير يقينه، وكيفية إقامته في ذهننا، وكيفية تعاملنا معه. وطبعا فإن تغير فهمنا يجعل العدالة المتعالية والخير المتعالي خاضعا لتمثل التناسق الذي يبنيه الفكر إذ نحن بدون ذلك التناسق لا نستطيع أن نفهم. لا يمكننا مثلا أن ندعي ان الظلم جزء من حكمة أشمل، ولا أن الشر جزء من خير أعم. إننا نحمل العدل والخير على أنهما جزء من تناسق قائم بيننا وبين العالم، ونجعل من رفض الشر مهمةً لنا، كما نجعل إدراك الفاضل من طبيعة الأمور، مما يعني عملنا على تنظيم مجتمعنا بحيث يكرس ذلك التناسق، واضطلاعنا بمجتمعنا على أنه شأن إنساني مرهون بإرادة الإنسان.
إننا نتمثل الحداثة ترحلا طويلا للوعي، يتفطن في آخر مراحله أنه هو الذي يؤسس: هو الذي يتمثل، وهو الذي يفكر، وهو الذي يقيّم، وهو الذي يحكم. أترى الوعي لم يكن يفكر ويتمثل قبل الحداثة؟ بلى طبعا. ولكنه كان يفكر في موضوعاته معتقدا أنها توجد خارج تمثله، معتقدا أنها توجد، وتوجد كما يتصورها، وهو لذلك مضطر إلى التطابق معها في خارجيتها تلك و»موضوعيتها».
لقد طرح الفكر سؤال الموضوعية من البداية متسائلا عن الشيء ما هو، وكيف يكون، وكيف يزول ويضمحل. وأجاب عن ذلك بأن الشيء في جوهره أمر غير مرهون بتصورنا، وأننا لذلك مضطرون إلى «إدراكه»، والتطابق معه: «إننا ضمن هذا الفكر» على ما يقول هيغل في دروس تاريخ الفلسفة، «... نفكّر، ونبرهن بواسطة الفكر، ولكن هذا الفكر أو هذا البرهان، يفترض أنّ ما نفكر فيه يوجد، ويوجد كما فكرنا فيه». إن هذا التفكير يفترض إذن وجودا في حد ذاته، وعلى حدة، وجودا يظل وجودا ولو انتفى التفكير.
إنّ الوضعية التي نتحدث عنها هنا لا تتعلق بالفكر اليوناني مثلا أو بالفكر الشرقي. إنها بنية تفكير قديم يتعلق الأمر بإعادة تأويليها وإعادة قراءتها : ما الذي يفترضه تجلي الإلهي للإنسان؟ ما تزال قصة اكتشاف إبراهيم للإلهي قصة نموذجية :ولكن إعلانات ابراهيم المتتالية: «هذا ربي»، وتراجعه في كل مرة عن تلك الربوبيات الوهمية، تطالبنا بأن نؤسس الإيمان لا ضمن «إله أكبر من تلك الآلهة» وإنما ضمن «تنزيل» له فينا أكبر من مجرد المقارنات بين الأجرام والقوى.
العالمُ «نسق» الأشياء إذن وليس «مجموعة» الأشياء. ولذلك فإحالةُ الشيء على الشيء، وتعيين الوعي للجهات ومواقعها، وتحديد نسبة هذه إلى بعضها البعض، وإلى الوعي، كلّ ذلك هو ما تنطق عنه عبارة «هذا ربي». إنّ ما تقوله هذه العبارة المتكررة هو في كلّ مرة نسبة الرائي إلى المرئي، وتقطيع [scansion] الفضاء والزّمان [اللّذين تقيسهما حركة الكواكب] بحسب مرجعية الرّب. ليست إشاريّة «الهذا» [أو إشاريّة «الذاك»، أو «التلك»، أو «الذلك» ...] إشاريّة مبهمة، أو مجرّد وصف تجريبي لتناثر الأشياء، وكأنما هي متناثرةٌ فقط، وإنّما هي، كما يقول الفلاسفةُ، محمولاتٌ لمحضِ الإضافة [attributs de la pure relation] تفي بضرب من الوضع الذي يحصل من ترتيب أجزاء [هي أجزاء العالم، أجزاء «ملكوت السّماوات والأرض»]. وهذا التّرتيب هو هو المقصود بالإشارة. فكأنما يظلُّ العالم أشياءه المتناثرة حتى ترتّبه الإشارة.
ولكنّها ليست أيّ إشارة اتّفق. هي ليست الإشارةَ التي تَري الأشياء وكأنما تُراها، وكأنما تمرّ أمامها الأشياءُ فلا تَسمع منها إلا بأُذن سماعُها من دخول الأصوات إليها، وتمرُّ أمامها الأشياءُ فلا ترى منها إلا بعين بصرُها من مرور الأشياء أمامها. وإنما هي التي بها ينتظم العالم نسقا من العلامات [signes] التي لا نسأل عن دلالة [signification] إحداها حتى تحيلنا على دلالة التي تليها. لذلك في «هذا ربي» تنكشف «هذا أنا»، ويحصل المعنى من اجتماع الدّلالات. كيف ينكشف «الأنا» ؟ إنه ينكشف بما هو مجمع الدّلالات، وبما هو الفاهم لها أي المؤسّس لها نسقا، أي المُمنطق لها، والمصبغ عليها خاصية المعنى.
إن غياب هذا النسق هو الذي تفضحه صرخاتنا ضد العبثية، وضد «حرمان الفاضل»، وضد «إدراك الناقص»، ومطالبتنا بأن يكون التناسق هو قاعدة العلاقة وأساس التراتب بين الأرض والسماء، وبين الأرضيين الذين نحن إياهم كل يوم. لم يعد من الممكن اليوم تبرير الشر بحكمة خفية، لأن الأساس الذي نبحث عنه ليس إلا العقل، ولأن العقل لا يمكن أن يتسع إلا للخير.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115