الذي حقّقه الإسلاميون، وعلّق عليها الشهيد « شكري بلعيد على ذلك « بقوله « اليوم على النخب فهم شعبها» ذلك التصريح كان المنطلق للتّحوّل الجذري الدي طرأ على مسيرته وتحوّله من صفة زعيم طلاّبي إلى صفّ المترشحين للقيادة التي تحتاجها السّاحة ، من يومها بات خطابه يتّسم بأكثر واقعيّة وبراغماتيّة ممّا جعله مسموعا من جمهور واسع من خارج جمهوره، وصارت تحاليله مرجعا في مصارعة ومحاججة التّيّارات الدّينيّة الزّاحفة بقوّة على السّاحة وكان بروزه بذلك الشكل وتوسّع حضوره الإعلامي يوحي بوجود شيء متميّز في ذلك الرّجل يميزه عن الأسماء والزعامات التي أفرزتها الحركات الجامعيّة منذ انبعاث منظّمة « آفاق» في السّتينات.
لقد دخلت أجيال من المناضلين في السّياسة من بوّابة الأفكار «والطوباويّات» الكبرى التي شهدت مدّا كبيرا في العالم، وقد انصهرت في تلك التّيارات الفكريّة الأكثر جاذبيّة في ذلك الوقت الماركسيّة والقوميّة والديمقراطية الاجتماعية، وقد عانت من بطش السلطة وقمعها ، لم يبخل عن تقديم التضحيات الجسام ، وخاضت معارك سّياسيّة واجتماعية وحقوقيّة قاسية، لكن بعد تلك المسيرة المضنية والشّاقّة، وجدت أنفسها على الهامش دون وزن شعبي يعكس كلّ تلك التّضحيات. وظل تأثيرها بقي منحصرا خلف أسوار الجامعة وفى النقابات والجمعيّات وفي الفضاءات المغلقة عموما بعيدا عن الجماهير الشعبية التي كانت غايتها الإلتحام بها .
وكانت ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي الفرصة لتلك الحركات والتّيّارات لتصريف مخزونها النّضالي والنّظري على أرض الواقع والسعي إلى تحقيق حلمها بالإلتحام بالجماهير العريضة ، لكنّها اصطدمت بالحقيقة التي غابت وهي في غمرة حراكها الميداني، بأنّ المواقف الرّاديكالية والخطاب المشحون بالحماس والعواطف لا يكفيان لنيل ثقة الجماهير، وأنّه حان الوقت إذا أرادت أن تضمن وجودها في ساحة متفجّرة أن تتأمّل وضعها وتسائل نفسها عن مكوثها في تلك الدّوّامة «السيزيفية التي منعتها من أن تصبح قوّة يقرأ لها ألف حساب على السّاحة السّياسية رغم أنّ مختلف النّخب تشكّلت منها، فمن صلبها تخرّجت أبرز الوجوه الثقافية من كتّاب وشعراء ومسرحيين والسينمائيين وفنّانين...وهي التي زوّدت الجامعات بأبرز الأكاديميين والمفكّرين، و أعطى مناضلوها دفعا للجمعيات الحقوقية والحركات المدنيّة ....وفي النّهاية لم تفلح تلك الحركات بكل ما قدّمته وما بذلته ّفي الماضي والحاضر وما تمتلكه من تلك طاقات وكفاءات بشريّة من أخذ مكانتها على السّاحة
البعض منهم يذهب في تفسير ذلك إلى أنّ تلك الحركات مواصلة في نفس الانغلاق على نفسها والتّشبّث بشعاراتها «الدّغمائية» وعجزها عن التّنظم في إطار يجمعها بمختلف مكوّناتها، وأرجع البعض الأخر ذلك إلى مسألة أعمق وهي عدم استيعاب تلك الحركات المتغيّرات العميقة التي استجدّت في العالم وسقوط الإيديولوجيات وتراجع الأفكار ا في إنتاج البدائل الاجتماعية والاقتصادية ممّا يفرض عليها إدخال تغييرات جذريّة على مفاهيمها وسلوكها.
ذلك ما فهمه الشهيد شكري بانّ المشكلة ليست في الثبات على القناعات و الشعارات بقدر ماهي في كيفية نسجها من هموم واهتمامات تلك الفئات الشعبيّة وترجمتها إلى لغتها وأنّ الجماهير لا تجتمع حول الرّموز المجرّدة بل تحتاج إلى رمز حي يتحرّك ويتكلّم ويعبّر عنها وعندها تحوّل شكري إلى مشروع أرعب أعداءه فقرّروا تصفيته جسديّا
و جنازة الشهيد شكري التي شاركت فيها تلك الحشود العارمة والتي فاقت أعدادها المليون ونصف المليون لتودّع زعيمها الذي كانت تراه ينضج ويكبر أمام أعينها تؤكّد أنّه قد دخل وجدانها ونال اعترافها ....وترك لمن بقي خلفه.