وصفا وتحليلا فلسفيين من جهة كون الورقات التي عرضت على أنظاركم تولت في كل مرة الوقوف على الافتراضات التي يقوم عليها كل مشهد من المشاهد وكل فعل من الأفعال التي تناولت. وفي هذه الحدود يمكننا في مقاربة أولى أن نقول إن تلك الورقات تنتمي إلى «الأشياء الفلسفية» لأنها سعت من خلال مختلف موضوعاتها إلى رفع ما تتناوله بالتفكير إلى درجة ما من المفهومية. فكأنما تصدر تلك الورقات جميعها عن هذا الإقرار الضمني بأنه لا مفهومية من دون كشف الافتراضات المنطقية وتحليل مضامين الوعي التي تصاحب كل شيء من تلك الأشياء. على أن تلك المضامين المقدمة لم تتجاوز المستوى التفكري (le niveau réflexif) وهو المستوى الذي ألزمت به نفسها مع وعيها بأن النظر لا يُستكمل عند ذلك الحدّ الذي قد يمثل فقط المستوى الأوّل من التّفكير الفلسفي، ولا سيما من منظور بعض الفلسفات. لقد أردنا من خلال تلك الورقات، ومن خلال ما سيليها أيضا، أن نبين خاصة أن لا شيء يفلت من النظر الفلسفي، لا شيء مهما كان يوميا وبسيطا وحتى تافها. قد علمنا أفلاطون منذ أكثر من 24 قرنا أن الفلسفة لا تستحي أن تنظر في الأشياء التافهة التي من قبل الشعرة، أو الوحل أو القاذورات، وأنه لا شيء يحول دون أن نفترض لها مُثلا في عالم المعقولات هي التي تفسر وجودها الحسي التافه.
لا شيء يفلت من الفلسفة إذن. ومن أجل ذلك سنتحدث اليوم عن حدث ما نزال نستحضر لذاذة وقعه ووقوعه: وأعني ذاك اللاعب الذي امتلك الكرة، ثم راوغ، ثم سدّد. فاهتزت لمآل تسديدته تلك الحناجر والقلوب وخفقت القلوب ولعل بعضهم قد أغمي عليه في زحمة الفرحة. لن نهتم بهذا الجانب. وإنما نريد أن نتفكر في حدوث ذلك الحدث من داخله. ما هي العناصر المنصوبة من داخل الحدث الذي يستثني طبعا كل عناصر «الموضوعية» المواقتة والمجاورة له؟
تحدث ميرلوبونتي في كتابه بنية السلوك الذي سبق كتابه العمدة: فينومينولوجيا الإدراك، عن قصدية اللاعب في الميدان. فالمربّع الأخضر ليس في ذهن اللاعب شكلا هندسيا يمكن تصويره ورسم ما لا نهاية له من الخرائط وفق منظوريات مختلفة. إنه إدراك، ورؤية تتحصل من سياق قصدي في ذهن اللاعب. ما الذي نجده في «قصد الرؤية» هذه؟ هذا المربع الأخضر تشقه «خطوط القوّة» التي تتنادى إليها أو تتباعد عنها كل المنازلات: فهي ليست قارة، بل يحضر في ذهن اللاعب في كل لحظة تشكّل ما. ما الذي يتحكم في ذلك التشكل؟ التموقع اللحظي لإمكانيات المرور ولفرص المغالطة والتسرب. ليس للملعب إذا أي وجود معطى أو موضوعي، وإنما تحدِّد تشكُّله قصديةُ اللعب التي تترجمها حركته: «يتمفصل الملعب « في ما يقول مرلوبونتي، «كجملة من القطاعات ( على نحو الثغرات التي تفغر بين الخصوم مثلا) والتي تستدعي ثم تطلق شكلا ما من التحرك، وتحمله كما لو أن اللاعب لا يعي به». فكأنما يبني اللاعب المربع في كل لحظة، ولا يرى موضوعيته المعطاة، بقدر ما يرى تشكله «حدّا محايثا لقصدياته». لا يجري اللاعب إلا وهو يسابق ملعبا يسابقه بأنساقه وإيقاعاته المختلفة التي تأتلف منها «صورة» يمكن تقسيمها إلى لحظات «فوتوغرافية» لا شك أنها بنزوعها إلى التحليل تضيّع علينا صناعة اللاّعب و عبقريّة مراوغته القاتلة. فكأنما اللاعب هو الملعب (تشكله، ووقفة الزملاء فيه، ووقفة المنافسين، وأعين الحكام، والوميض المتزامن لصورة هذا المرمى وذاك بقصديتين لا تقلان تزامنا ولا تقاطبا). كأنما الملعب لباس اللاعب، وكأنما اللاعب ملتبس، متلبس بالملعب. هكذا «يُحس/يتشمّم/ اللاعب وجهة المرمى ، فيشعر بقائمته والعارضة كأنما هو جسده الواقف، وجسده الممدّد». لا يتعلق الأمر إذن بمجرد أن الوعي يسكن الملعب، فالوعي الآن جدلية المكان الآهل والتحرّكِ فيه. لا يوجد المربع كشيء ذي كيان موضوعي، بل حدوده هي ما نفعل بها : «في كل مرة يعدّل اللاعب ما ينعطي له من الملعب، ويرسم فيه خطوط قوة لا تدوم أكثر من ومضة حركته التي تعيد تشكيل كل شيء».
هذا هو سياق المراوغة التي تقلب الملعب على ساكنيه رغم حرصهم، وتحوّل بسالة المراقبة إلى هلع المفاجأة. فجأة انتقل اللعب من مشهد التقني المكرور، من إيقاع التوزيع المكاني المحكم الذي يمكنه أن يتواصل من دون تغير، إلى فُغور تشكَّل منه الملعبُ تشكُّلا آخر، وازدوج الوعي فيه إلى قصدية مكانية تعدِّل، تُربك تَلازم المكان والوقت (وهو الذي نسميه وقفة اللاعبين) وتُواقِت هذا الإرباك في جدل قاصد يجمع بين الموقع والفعل، بحركة تنفرد بنفسها، أعني بحركة لا يزامنها، لطرفة عين، تشكل مكاني ظل يلازمها على امتداد وقت اللعبة. ما هو التغلب ساعتها؟ إنه تشكلُ قصديةٍ كاملةٍ في لحظةِ قصديةٍ مقابلةٍ نسيت أن تستكمل نفسها: القصديةُ الأولى جمعت في جدلية تامة بين تشكل مكاني وحركة، وأما القصدية الثانية فتخلَّف فيها أحد العنصرين.
تنتمي المراوغة القاتلة إذن إلى جنس يمكننا أن نسميه العبقرية لأنها تتغلب كقصدية فاعلة على وعي لا يزامن بين معطييه: الوقفة المكانية والقدرة على الفعل (المنع/ الدفاع) ضمن جدلية مؤاتية. إن هذا التغلب هو الذي نسميه في لغة الرياضيين: الاستباق : افساح مكان للحركة، للقذفة، للتسديدة. لا يهم المكان في حد ذاته، إذا لم يكن جدليا مرتبطا بحركة تعمّره. سأختم بملاحظتين.
• الملاحظة الأولى:
يروي سافرانسكي أن هيدغر كان في سنة 1974 ينتقل إلى بيت جار له ليشاهد فرانز بيكنباور في دورة كأس أوروبا آنذاك حيث كان معجبا به أيما إعجاب. التقاه ذات مرة، في القطار، مدير مسرح فرايبورغ وأراد أن يستغل الفرصة ليسأله في علاقة الأدب بالمسرح. ولكن هيدغر فضل أن يكون الحديث عن بيكنباور وقد كان مبهورا به، وبقدرته الفائقة على ترويض الكرة، بل حاول أن يظهر لمحدثه براعة اللاعب ودقة سيطرته على الكرة، وقوته العجيبة على عدم الانهزام في الثنائيات، مؤكدا أنه «لاعب ملهم». لا شك أن «عبقرية» بيكنباور، أو إلهامه، هي الرد الذي وجد فيه هيدغر تأكيدا لنقده للتقنية: فإن كرة القدم التي باتت شبه تقنية ملساء لا تعتريها أية نتوءات، تحتاج لتصبح لعبة إلى نوع من التعالي على التقنية، إلى نوع من العبقرية، من عبقرية الاختراع، التي تزيح كرة القدم العلمية، «المربّعة»، من على عرش كرة القدم.
• الملاحظة الثانية:
إن تسديد الكرة لا يضمن التهديف. فالهدف دائما خارج عن قصدية الوعي وإن لم يكن خارجا عن رجائه وأمله. ولذلك فإذا كانت المراوغة مصدرا للإعجاب الذي يسجل انتصار الإنسان على التقنية، فإنّ الهدف هو مصدر الفرح الذي لا يصمد أمامه شيء، حتى حالة الاستثناء، لأنه ناتج عن التقاء العبقرية بمؤاتاة الحدث، الكايروس.