لا يمكن لأي كان أن يتصور مخرجا ما دون أن تتكاثف من أجله أكثر ما يمكن من المجهودات الهادفة ودون أن تلتف حوله أوسع ما يمكن من العزائم الصادقة بعيدا عن نزعة الاتهام والتفتيت والتمزيق والتشريد التي لم تنتج إلا مزيد الحيرة والقلق والانشغال العميق في خصوص وضع تونسي كارثي بكل المقاييس وفاقد لكل أفق.
ومع صعوبات الطبقة السياسية وما أظهرته من عجز على تجاوز نقاط ضعفها ومن عدم قدرة على التحكم في المسار التونسي الصعب لما بعد 14 جانفي 2011 ومع ما قابل ذلك من انغلاق المؤسسة الرئاسية على نفسها ونفيها لوجود أي نفس وطني خارجا عن سياقها وعن سياق من سلموا بأمرهم لها فإن البلاد لم يبق لديها إلا الاتحاد العام التونسي للشغل للالتجاء إليه كملاذ طبيعي لكي يتحمل مسؤوليته كاملة كما قام بذلك في المحطات التونسية المصيرية وهو صاحب شرعية غير قابل لأي تشكيك فيها وقد بادر في الماضي فوجد التجاوب الشعبي والوطني المطلوب وأنجز الموعود.
إن المتابع للقرارات والإجراءات الرئاسية لا يسعه إلا أن يسجل تواترها نحو الهروب إلى الأمام في متاهات لا تتقدم بالبلاد في شيء بل على عكس ذلك تماما فهي تفتح على مطبات مزيد الشك والتشكيك والاقدام على وضع مصير البلاد رهينة استشارات الكترونية غامضة وغير معروفة العواقب إلا بالنسبة للمؤسسة الرئاسية الماسكة بخيوطها باسم الديمقراطية المباشرة والقاعدية بينما البلاد في أوكد الحاجة إلى التشغيل الأفضل لدواليب الدولة وارجاع الثقة للفاعلين الاقتصاديين المحليين والأجانب لتحريك ما ركد من أنشطة وإنقاذ ما تضرر من مؤسسات وتشغيل من ظل محروما من الحق في العمل السنوات الطوال.
لقد أفرزت الأحداث المكثفة التي عاشتها تونس في الردهة الأخيرة سواء قبل 25 جولية أو بعدها مواقف إيجابية متقدمة استخلصت كما هائلا من الدروس وأصبحت تعبر عن استعدادها للانخراط في كل عملي وطني تأليفي جديد يعادي الانتهازية واللهاث وراء المصالح الشخصية والمنافع الفئوية ويتجاوز الزعاماتية المقيتة ويقبل بالحوار رغم الاختلاف ولا يدعي امتلاك الحقيقة ويضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار وهي دروس التجربة الثمينة التي تتطلب البناء والمراهنة عليها.
وهو ما يعني أن الاتحاد لن يكون وحده في أي مبادرة وطنية يتخذها، بل سيجد طيفا عريضا من الوطنيين الصادقين المعترفين بدوره والمؤمنين بالحوار كقيمة حضارية وكأداة مجدية للتشريك والتضامن والتكاتف أمام الصعاب ونكران الذات وتغليب مقتضيات المصلحة العامة على النزوات الفردية وعلى الاعتقاد الخاطئ أن هناك من يمتلك لوحده الحقيقة.
إن تونس بلد عاش بالصداقة الدولية وكسب الأنصار والتفاعل الإيجابي من أجل المصلحة المشتركة بينه وبين أصدقائه وأشقائه من البلدان والشعوب وأمام ما حصل من خسارة رصيد كبيرة في هذا المجال أدت بنا إلى أبواب مسدودة من الناحية المالية والاقتصادية فإن كل تمشي تأليفي وطني جديد قائم على قاعدة احترام السيادة التونسية والانفتاح على الآراء والاجتهادات والمقترحات التي لا تتعارض مع المصالح الشعبية والوطنية ستجد كل الترحاب وستمثل منعرجا في تناول ومعالجة الأزمة التونسية المتشعبة والمتواصلة في التعقيد والاستعصاء على الحل.
إن عدم تحمل المسؤولية في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان لاستباق نزعة الهروب إلى الأمام والانعزالية، قد يكلف البلاد والعباد مزيد المصاعب التي ستتجاوز طاقة التحمل، وبعد ذلك يفتح الباب على مصراعيه على كل الاحتمالات وتدخل البلاد في دوامات نعرف أن بإمكانها أن تعصف بكيانات وطنية ظنت نفسها في مأمن كامل من مثل تلك المسارات التحطيمية قبل أن تستفيق وهي عاجزة على أي تصدي للكارثة التي حلت بها.