خواطر من أجل أن يكون التعليم رحلة ممتعة: معهد بورقيبة والمركز الثقافي الفرنسي والتلاميذ

اثر صدور الجزء الثاني من سلسلة مقالاتي حول اصلاح التعليم استقبلت رسالة الكترونية لطيفة من وزير سابق هذا جزء منها :

« نحن فعلا محتاجون الى ثورة تعليمية في ظل هذه المتغيرات التي اصبحت تجعل من التعليم بالنسبة الى ابناءنا رحلة معاناة بدل ان تكون رحلة ممتعة كما اقترحت».
مثل هذا التفاعل يسرني كثيرا خاصة وان والوزير السابق ليس مجرد سياسي بل هو ايضا كاتب وناقد سينيمائي وهذه الصفة الاخيرة هي التي اوحت الي بمقال هذا الاسبوع.
سينما المؤلف كانت ولازالت احدى اهتماماتي الكبيرة وكل قاعات السينما بالعاصمة وضواحيها لي فيها ذكريات كبيرة لافلام مهمة شاهدتها واعجبت بها وعمقت شيئا فشيئا حبي لهذا الفن : اتذكر مثلا اني شاهدت فيلم «رياح الاوراس» للأخضر حامينة في قاعة ابن رشيق بشارع باريس بالعاصمة في اطار ايام خصصت للسينما الجزائرية وتعرفت على المخرج الالماني الكبير «فيم فندارس» بقاعة الفن الرابع عبر فيلمه الرائع «اجنحة الرغبة « ثم حملني نفس المخرج الى قاعة قرطاج لمشاهدة شريطه «باريس تكساس».
كنت ولازلت سائحا بين مختلف قاعات السينما القليلة المتبقية (ليحفظها الله من كل مكروه ) الى ان قادتني رغبتي في احدى المرات الى قاعة السينما بالمعهد الفرنسي بتونس (المركز الثقافي ) لمشاهدة فيلم مجري اسمه Le fils de Saul سمعت انه ترك اصداء طيبة في مهرجان كان السينمائي .
ولمن لا يعرف مقر المعهد الفرنسي فهو ملاصق لمعهد بورقيبة الثانوي ومن اهم مكوناته مكتبة ضخمة تفتح على بهو خارجي تليها قاعة سينما.
اتذكر اني وصلت مبكرا واضطررت الى الانتظار بعض الوقت بالبهو الخارجي حيث كان يجلس غير بعيد مني مجموعات من تلاميذ معهد بورقيبة بصدد مراجعة بعض الدروس.
ظننت بادئ الامر ان التلاميذ اتوا مثلي لمشاهدة الشريط السينمائي بعد نصيحة احد الاساتذة ولكن ومع اقتراب موعد عرض الفيلم كان التلاميذ يغادرون شيئا فشيئا وفي النهاية وجدت نفسي داخل القاعة صحبة عدد قليل من الكهول (لم يبق اي تلميذ ).
بعد مشاهدة الفيلم الذي كان قد حازعلى الجائزة الكبرى لمهرجان كان السينمائي شعرت بان التلاميذ واساتذتهم ضيعوا على انفسهم فرصة كبيرة لمشاهدة درس في سينما المؤلف كان ربما ليفتح امام بعضهم افاقا جديدة ومالات جديدة لم يكونو يعرفونها لان هذه النوعية من الافلام ليست تجارية وفرص عرضها في تونس نادرة ومناسباتية .
صور الفيلم قلب المحرقة النازية ولكن بطريقة فنية فيها كثير من الحرفية حيث عشنا «جحيم» افران الغاز النازية من خلال تعابير وجه البطل (قرب الكامرا) ومن خلال الانارة القاتمة ومن خلال القصة الجريئة التي كانت تتلخص في محاولة اخراج طفل ميت من اجل دفنه على الطريقة الدينية (قبل حرقه) :انها قصة انبعاث الحياة من قلب الموت وقصة الامل الذي ينبعث من قلب الجحيم .
يقدم هذا المثال مشكلة اخرى من مشاكل تعليمنا وهي انغلاق المؤسسات التربوية تجاه محيطها الثقافي فمعهد بورقيبة النموذجي كان محظوظا لانه ملاصق لمركز ثقافي مهم يحوي مكتبة ضخمة وقاعة سينما وله برمجة ثقافية يومية ثرية (معارض, حفلات موسيقية, …) ولكن كان واضحا ان التلاميذ لا يستفيدون من هذه الميزة الكبيرة .
وحتى وجود التلاميذ في البهو الخارجي للمكتبة فكان واضحا انه من اجل الاستراحة ومراجعة الدروس وليس من اجل اختيار كتاب من اجل القراءة الحرة .
فاذا كان هذا الحال في معهد نموذجي فما بالك بمعهد في داخل الجمهورية.
عندما نطالب بان تكون الثقافة جزء من تكوين التلميذ التونسي فهذا لا يعني بالضرورة ان تكون مادة مقررة في البرامج الرسمية ولكن يمكن ان تكون ببساطة دعوة استاذ لتلاميذه لحضور شريط سينمائي يعرض في دار الثقافة او لقراءة رواية صدرت حديثا ل»باولو كويلو» .
وقد كان هذا معمولا به فانا اتذكر وانا في الاعدادي ان استاذ الرياضيات (سي الفقيه ) قال لنا اثناء احدى الحصص «هذه الايام تدور ايام قرطاج السينمائية حيث تعرض افلام لا يمكن مشاهدتها دائما انصحكم بحضور بعضها»: لقد كانت تلك اول اشارة قدمت لي حول سينما المؤلف وقد كانت من داخل المدرسة الاعدادية .
ان دور الثقافة والمكتبات العمومية والمناطق الاثرية والتظاهرات الثقافية المحلية يجب ان تكون امتدادا طبيعيا للتكوين المدرسي ويجب ان تتفاعل معها المدرسة لان هذه الفضاءات غير كلاسيكية وتمنح التلميذ شعورا بالحرية والانطلاق وعيش تجربة مختلفة .
وهنا اتساءل لماذا لا يقع التنسيق بين المندوبيات الجهوية للثقافة والتعليم من اجل اعلام التلاميذ عبر معلقات حائطية بالتظاهرات الثقافية القريبة من المدارس الاعدادية والمعاهد .
ان نظرة المدرسة للفنون كلاسيكية وفيها نوع من «التعسف « فالتلميذ «مجبر» على حضور ثلاث مواد فنية كاملة داخل فضاءات مغلقة وغير مهيئة رغم انه ربما يكون له ميل الى فن بعينه فمن يحب الموسيقى مثلا لماذا يجبر على حضور حصص التربية التشكيلية والمسرح .
ان تعرف التلميذ على فن المسرح مثلا يكون افضل عندما يكون عن طريق حضور مسرحية من ان يكون عن طريق دروس اكاديمية ضمن مقرر مدرسي وكذلك بالنسبة الى الرسم او التربية التشكيلية .
ولهذا اقترحت في الجزء الاول من خواطري ان تكون المواد الفنية اختيارية بحيث يختار التلميذ مادة فنية واحدة في كل سنة دراسية وهكذا يبدا التلميذ على التعود على الاختيار وتحمل المسؤولية وكذلك يستطيع التعرف على ثلاث فنون خلال السنوات الثلاث او الاكتفاء بفن واحد وايضا فاننا بهذه الطريقة الذكية نخفف ساعات الحضور الاجباري داخل فضاء مغلق.
ان هذا المزيج والمراوحة بين حضور مادة فنية واحدة داخل القسم ( يختارها التلميذ) وحضورتظاهرات ثقافية اخرى (اختيارية ) خارج اسوار المؤسسة التربوية هي في نظري ستمنح التوازن وانفتاحا افضل للتلميذ على عوالم «مخفية «ممتعة وتعطي للتعليم «قيمة مضافة» .
ولكي يكون لهذا المقال قيمة عملية فاني استطيع ان اقترح على من اختار ان يقرا هذا المقال من تلاميذ تونس الكبرى الاطلاع على البرمجة الاسبوعية للمكتبة السينمائية (عبر صفحتها على الفيسبوك مثلا) فهي تحوي دائما افلام جيدة وممتعة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115