منبــــر: الصحافة في مجتمع الفرجة

مع تطوّر المجتمعات تطوّرت الصحافة بدورها لتنهل من المعرفة والتقدّم العلمي بمختلف مجالاته وتفرّعاته، فالصحافة تفسّر وتحلّل

وتفكّك وتقارن وتقدّم الحلول وتربط بين جميع الاتجاهات المعرفية والعلمية.. إضافة إلى أدوارها في الإخبار والتحرّي والاستقصاء، لذلك يمكن أن نقول أنّ الصحافة تبحث دائما عن الحقيقة وتعرض كل وجهات النظر المتاحة..
ما تسعى إليه الصحافة من بحث دقيق عن الحقيقة يتنافى أصلا مع كل الحركات التي تزعجها الحقيقة، كالحركات الإيديولوجية والشعبوية..

في تونس، مع تجذّر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في مسار متعثّر للانتقال الديمقراطي، صار المجال العام التونسي يتغذّى أكثر فأكثر بخطابات الكراهية والشعبوية، ويرفض أيّ نقاش أو رأي أو فكر لا يتلاءم مع المزاج العام.. ما انعكس أيضا على مهنة الصحافة باعتبار أنّها تقوم على مبدأ السعي إلى الحقيقة دوما، ولا شيء غير الحقيقة، في تصادم مع جماهير لا تريد أن تعرف الحقيقة ولا تكترث أو تبالي بها، الجماهير التي تفضّل الزيف، وتستمتع بالقصص العجائبية أو الخارقة أو التآمرية..

ولكن هل تتحمّل الجماهير وحدها مسؤولية ازدراء الصحافة؟ وهل تروق للسياسي أو للمسؤول فكرة أنّ الصحافة تسعى إلى المعلومة دوما، وتتابع الشأن العام وتراقب أداء السلط، وتبحث عن الحقائق لا أنصافها، وتبين الحقيقة من الخداع والزيف والتلاعب والكذب؟
يعتبر الدكتور و الأستاذ الجامعي في علوم الإعلام والاتصال «أنّ أزمة الثقة بين الجمهور والصحافة ليست خاصية بالمجتمع التونسي، بل يحدث ذلك في دول مثل فرنسا والولايات المتحدة»، ويفسّر هذا أنه «مرتبط بما يسمى سياقات الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي والإستقطابات الشعبوية».
وهنا نتساءل، هل هنالك حاجة الآن للصحافة في المجتمع التونسي؟

يعتبر الحمامي أنّ هنالك أربعة مؤشرات تجيب بـ»لا» عن هذا الموضوع ويفسّر: «هذا الموضوع أشتغل عليه، أوّلا، عندما نتحدّث عن صناعة الإعلام، هنالك الكثير من القنوات التلفزيونية والإذاعية ومتحصله على رخص من الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري، وليست فيها هيئات صحفية أو فيها هيئات صحفية صغيرة جدا، حيث يتم التخلّص من أقسام الأخبار ويبقون على التسلية والترفيه».

أمّا «القوّة الثانية التي لا تريد الصحافة تتمثّل في السياسيين، حيث أنّ الجيل السياسي الأوّل، هذا الجيل الميكافيلي، كان يريد_ ما أسميه الصحافة المندمجة_ أي يريد صحافة شريكة معه في الاتصال السياسي، صحافة تفسّر له الاتصال السياسي، وهذا الدور يقوم بيه الآن بعض «الكرونيكورات» في بعض القنوات. أما السياسيون الشعبويون لا يريدون الصحافة أصلا، يريدون الاتصال المباشر ويعتبرون أنّ الصحفي يزعج تلك العلاقة الصافية بينه وبين الجمهور».

يحيلنا هذا على فكرة الصحفي والروائي إريك آرثر بلير المعروف بجورج أورويل التي تعتبر أنّ «حرية الصحافة إذا كانت تعنى أي شيء على الإطلاق، فهي تعنى حرية النقد والمعارضة»، بينما ترتكز الحركات الشعوبية بالأساس على معاداة النُّخَب، ما يعني بالضرورة معاداة الرأي الآخر، بالتالي معاداة جوهر التعدد والتنوّع وما ينتج عن ذلك من تضييق على الحريات، وتصفيات رمزية أو معنوية لهذه النخبة، ممن لا تتلاءم أفكارهم وأفكار الشعبوي الذي يضع تصوراته ومفاهيمه وأفكاره ومواقفه وأفعاله وأقواله كحقيقة مطلقة لا تقبل نقاشا أو سؤالا أو حجاجا.
ثالثا الجمهور نفسه لا يريد الصحافة، وهنا يفسّر الصادق الحمامي أنّ هذا الجمهور «تربّي في الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي وأصبح معاديا للحقيقة، ولا يريد الحقيقة.

وعن هذا الجمهور يرى الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في مؤلفه سيكولوجيا الجماهير أنّ ذكاء الأفراد داخل المجموعة معطّل، فالفرد يمكن أن يلاحظ عدم عقلانية أمر ما، ويمكن أن يتساءل ويشك ويحلّل وينبش ويفكّك.. الجماهير لا تستطيع أن تعيش دون أوهام وترفض ما لا يريحها وما يزعج سكينتها الجماهير، لا تريد الحقيقة، ولو كانت الحقيقة مزعجة ومقلقة، ستنظر إلى «الحقيقة» من الناحية الأخرى، وستستكين إلى ما يريحها حتى لو كان غير عقلاني..

رابعا وحسب الحمامي فإنّ القوّة التي تعمل ضد الصحفي هي فايسبوك نفسه، فالصحفي كان وسيطا في الشأن العام وصانع قضايا الرأي العام، الصحفي فقد دوره بسبب الفايسبوك، ويمكن أن أقول أنّ من الأكثر المؤسسات التي تضرّرت من الانتقال الديمقراطي هي مهنة الصحافة التي تراجعت الحاجة إليها».
في سنة 2016 وعند صدور كتاب «الإنسان العاري» بطبعته الفرنسية للكاتبين مارك دوغان وكريستوف لابي، أصبح من الكتب الأكثر مبيعا حول الفضاء الافتراضي الرقمي. وقد كان هذا الكتاب بمثابة ناقوس خطر على ما وصلت إليه «قوات تدخل عالم الافتراضي» أو «الدكتاتورية الخفية للرقمية» من تحكم وتغلغل شركات «غوغل» و»فيسبوك» أو «ميتا» و»تويتر» عبر الشركات العالمية على عقولنا وسلوكنا. وهنا يفسّر الناقد المغربي سعيد بنكراد مترجم هذا الكتاب إلى العربية، أنّ العالم الإفتراضي لم يعد لعبة عارضة في حياة الناس، بل أصبح «وجودا حقيقيا له هوياته وأنواته وضمائره ومساحاته وفضاؤه وزمانه».

وهنا نستحضر الانتقادات اللاذعة التي تحدّث عنها الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو لمواقع التواصل الاجتماعى قائلا: «إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسببوا في أي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا. أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115