قهوة الأحد: وجوه من الإبداع (30): سيرين قنون : مسرح الحمراء والإبداع مع عز الدين قنون وبعده

بلغت علاقة عزالدين قنون بمسرح الحمراء حدودا قصوى من العشق والوله لتصل الى مرحلة الذوبان في الآخر .

فقد جعل المسرحي الكبير عز الدين قنون من هذا الفضاء ورشة لتجاربه المسرحية والإبداعية على مدى أكثر من ثلاثة عقود .
في نفس الوقت تمكن هذا المعلم الفني التاريخي من استعادة بريقه مع عز الدين قنون بعد عقود من النسيان .
وتعتبر قاعة الحمراء في الحي الشعبي باب الجزيرة ثاني أقدم قاعة سينما في بلادنا ويعود تأسيسها إلى سنة 1922.وكانت إلى حدّ إغلاقها في بدية السبعينات من أهم القاعات السينمائية في تونس.

وكان عز الدين قنون في بداية الثمانينات يبحث على فضاء يستقبل إبداعاته ومشاريعهاالمسرحية .فاكتشف قاعة الحمراء في متاهاته في شوارع المدينة سنة 1985.فقام بعملية ترميم كبيرة امتدت حوالي سنتين لتفتح القاعة أبوابها في نوفمبر 1987.
ومنذ ذلك الوقت عادت لقاعة الحمراء عبق ونشاط شبابها حيث اصبحت كخلية النحل تعج بالإبداع الفني ولقاءات الشباب الرافض للاستبداد ومركز إشعاع على المستويين الإفريقي والعالمي .

وقد استقبلت قاعة الحمراء فرقة المسرح العضوي التي أسسها عز الدين قنون سنة 1981 والتي كانت مجالا وفضاء لإنتاج مسرحيات كبرى مثل « حبّ في الخريف» سنة 1998 و»الدالية» سنة 1989 و»قمرة طاح» سنة 1991 و»المصعد» سنة 1994 وطيور الليل» سنة 1996 و»نواصي» سنة 1999.
الى جانب الإنتاج المسرحي المحلي كان لهذا الفضاء إشعاع عربي وإفريقي توج بتأسيس المركز العربي الإفريقي الذي فتح مجال الإبداع المسرحي لأجيال كبيرة من القارة الإفريقية ومن الوطن العربي .

إلا أن هذا الحلم والزخم الإبداعي ترجل مع رحيل أمير المكان عز الدين قنون في 29 مارس 2015. وهنا تحولت الأخطار إلى ابنته الجميلة والمدللة سيرين لحمل المشعل ومواصلة هذا المشروع الإبداعي .فهل ستكون قادرة على ذلك ؟

النشأة تحت ظلال المسرح
ولدت سيرين قنون في عائلة فنية .فالوالدة رغم انها أستاذة رياضيات كانت مهووسة بالفن والوالد عز الدين قنون كان من أهم المسرحين المجدين في بلادنا .وقد نشأت البنت الصغيرة على مبادئ الالتزام السياسي والفني .ومن الذكريات التي رسخت في بالها زيارة الفنان الشيخ أمام لإحياء سهرة بالبيت مع أصدقاء العائلة ولم تتجاوز بعد السادسة من العمر.
في سنوات الدراسة الأولى اختارت سيرين أن تتعلم الرقص فدخلت إلى البالي القومي للرقص .ودارت حياتها حول المسرح والدراسة والرقص .
إلا أن المسرح هيمن على هذه الحياة التي انسابت بين حضورها اليومي إلى المسرح لمتابعة تمارين فرقة المسرح العضوي تحت قيادة والدها .وكانت في مسرحية تجد دورا لها وتترجى الوالد أن يضيفه إلى النص .كما كانت في كل إعداد لجولة بإحدى مسرحياته تطلب منه مصاحبة الفرقة في ترحالها.فكان يرد عليها بابتسامة الكثير من الحنان والعطف. إلا أن تجربتها المسرحية الأولى كانت بعيدا عن الوالد .اذ تم اختيارها من طرف المخربة الكبيرة سلمى بكار في كاستنيع مسلسل «نساء في الذاكرة» سنة 1997 لم تتجاوز 13 سنة وبدون علم عز الدين قنون .
واهتم المسلسل بمسيرة نساء مشهورات وصلن إلى السلطة مثل رئيسة وزراء باكستان «بنازير بوتو» وكان لهذه التجربة أثران مهمان – الأول أن سيرين اكتشفت من خلال هذه التجربة ومن خلال مصاحبة ممثلات كبيرات مثل فاطمة بن سعيدان وجليلة بكار أن الفن والمسرح هما مجالاها في الحياة واختيارها للمستقبل .أما الأثر الثاني فهو قناعة عز الدين قنون بأن لابنته سيرين موهبة حقيقية بعد نجاحها في هذه التجربة ونجاحها في هذا الاختبار إلى جانب فنانات مرموقات كبيرات . هذه القناعة دفعته إلى فتح أبواب المسرح أمام سيرين بصفة جدية .
وفتح عز الدين قنون لابنته سيرين باب التكوين الذي كانت تقوم به مؤسسة الحمراء لتشارك في بعض التربصات . ومرت حسب القاعدة التي وضعها الأب الصارم في التكوين في كل المهن في المسرح من بائعة تذاكر إلى مضيفة استقبال والتوضيب التقني وغيرها من المهام الأخرى . وهذا المسار ضروري حسب عزالدين قنون لكل من يريد الانخراط في الإبداع المسرحي باكتشاف والتمكن من كل المهن في هذا المجال .

التكوين والتوجه تحو المسرح والتخصص في السياسات الثقافية
تحصلت سيرين قنون على الباكالوريا وفرضت الدراسات العليا نفسها عليها كمجال للدراسة الجامعية . إلا أن الخلاف مع عزالدين كان في اختيار المكان حيث حبذت البقاء في تونس لمواصلة دراستها إلا أن عزالدين قنون طلب منها الذهاب إلى باريس لتتعلم أشياء جديدة لا نعرفها في تونس .
وقد اهتمت سيرين بثلاث مجالات تخصص وعمل. المجال الأول المسرح حيث أحرزت على الإجازة في فنون المسرح .ثم اعدت ماجستير في نفس المجال وكانت رسالتها حول موضوع « التكوين الهيكلي للشخصية» .
اما المجال الثاني للتخصص فيهم مجال السياسات الثقافية وقد ساعدتها علاقات الصداقة التي ربطتها مع بسمة الحسيني ومؤسسة المورد الثقافي لتتلقى تكوينا مهما في هذا المجال مكنها من التخصص لتصبح مكونة في هذا المجال .
أما المجال الثاني فيهم التسويق والعمل التجاري وقد اكتسبت سيرين قنون خبرة في هذا المجال أثناء دراستها في فرنسا من خلال عديد التربصات لتصبح مسالة الديمومة هاجسا كبيرا وملحا إلى جانب الإبداع على خلاف الأجيال الأولى والتي لم تعط الأهمية الكبرى لهذه الجوانب المالية .وعند عودتها الى تونس ستتمكن سيرين قنون من وضع تجربتها على ذمة عديد المؤسسات القافية .فساهمت في تنظيم عديد التظاهرات الثقافية الكبرى مثل أيام قرطاج المسرحية ومهرجان قرطاج .
ثم عينها مراد الصكلي وزير الثقافة في حكومة المهدي جمعة مستشارة للاهتمام بقضايا تمويل للعمل الثقافي وتطوير سياسات جديدة في هذا المجال . إلى أن رحيل عز الدين قنون دفعها إلى ترك هذه المسار جانبا للعودة والخوض في الإبداع المسرحي وإجارة المسرح الحمراء .
المسرح والإبداع على خطى عز الدين قنون
انطلقت مسيرة سيرين قنون المسرحية قبل السفر الى فرنسا .وشاركت في عملين مهمين وهما «نواصي» سنة 1999 والتكلم بصمت» سنة 2003 وقد واصلت هذا الحضور المسرحي حتى عند تواجدها في فرنسا من خلال زيارات كثيرة للمساهمة في أعمال مسرح الحمراء .وساهمت في آخر انتاجات عز الدين قنون وهي مسرحية « غيلان» .
اثر غياب عز الين قنون طرحت مسالة إدارة المسرح الحمراء ومواصلة الإرث والمشروع المسرحي والفني الذي تركه .لكن في نفس الوقت كانت رغبتها في مواصلة تجربتها الخاصة تدفعها إلى مواصلة مسيرتها بعيدا عن هذا الإرث . في النهاية تمكنت من إيجاد التوازن الضروري بين الهاجسين لتبدأ تجربة إدارة هذا الإرث الفني الكبير الذي شهده مسرح حمراء على مر التاريخ .
وقد قامت سيرين قنون في فترة زمنية قصيرة بإنتاج عديد الأعمال المسرحية التي نالت عديد الجوائر العالمية ومن ضمنها «الشقف» مع مجدي أبو مطر و»خلف الشمس» و»ربع وقت» .
ولعل الأهم في هذه التجربة المحافظة على منهجية إبداعية معينة تعتمد على الارتجال . فانطلقت المسرحية من فكرة أو إشكالية معينة لتنطلق عملية الكتابة من وضعيات ارتجالية كان فيها الممثل عنصرا فاعلا .ثم وقعت صياغة هذه الارتجالات بطريقة درامية وتمت كتابة النص .وساهم كل الفاعلين في هذه الارتجالات بأفكارهم وآرائهم .ثم أتي الدور النهائي للمخرج الذي يضع كل العناصر مع بعضها في تواصل سلس.
السياسة في صلب الإبداع المسرحي
كانت تجربة مسرح الحمراء وعز الدين قنون وسيرين قنون في قلب الديناميكية والعملية السياسية من جانبين على الأقل . الجانب الأول يهم فتح الفضاء للمعارضين والحركات المجتمع المدني للتعبير عن آرائها حتى قبل الثورة . فكان المسرح فضاء للمقاومة ليتدعم هذا الاختيار بعد الثورة .
أما الجانب الثاني للاختيارات السياسية لمسرح الحمراء فيهم الاختيار المسرحي والانخراط منذ البداية في توجه المسرح المناضل .فقد اختارت الحمراء الابتعاد عن النخبوية في العمل الإبداعي والموجه إلى مسرح منفتح على الجميع من النخب إلى أوسع الشرائح الاجتماعية والطبقات الاجتماعية .
شكلت تجربة مسرح الحمراء مع عز الدين قنون وسيرين تجربة إبداعية فريدة لا فقط في بلادنا بل كذلك في المنطقة العربية .وقد ساهمت من خلال إبداعاتها ومن خلال اختياراتها السياسية المناضلة في بناء تجربتنا السياسية الجمعية المدنية في خصوصيتها وتفردها .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115