أن يكون مستوعبا لما وراء الصورة.. أن يكون مفتونا بالسينما لدرجة أنّه لا يحكم على أي عمل أو أن يحاكم أي مخيّلة.. أن يجد إجابة جديدة لماهية الفن في كل مرّة.. أن يُخرج من العمل السينمائي ألف سؤال وسؤال.. أن يكون دائما وأبدا حامل لواء الفكر النقدي.. أن يهتمّ بالتفاصيل باعتبارها جوهر الأشياء.. في الحقيقة هو أكثر من ذلك بكثير عندما نتحدّث عن خميس الخياطي..
خميس الخياطي هذا الجامع بين الصورة والحرف، المتطرّف لمحبة الحياة، هو ابن لأكثر من مكان وصانع لأكثر من حكاية وصورة.
في قرية القصور الكافية، ولد سنة 1946، القرية التي أشبعته هواء جبليا معطّرا بالفن والحكايات، أين تعلّم حروف الحياة الأولى حاملا الأرض والأساطير وتاريخها وعبقها معه أينما ذهب بعد ذلك..
في تلك البقاع العالية لم ينس الخياطي «شيخة» جدّته ولا رائحة حضنها ولا نسج حكاياتها الأسطورية الخرافية، الجدّة التي دفعته لطلب العلم دون أن تقرأ حرفا، الجّدة التي زرعت طرق نجاته الأولى، وعلّمته الإرادة الدائمة لحياة أفضل، جدّته حاملة وشم الحياة، تلك التي حرثت الأرض بأظافرها حتى يفتح أحفادها الكتب ويخطون كلماتهم.. كانت تلك الصور وقودا أزليا لخميس الخياطي الطفل الحالم والمولع بالألوان.
عندما كان تلميذا في المدرسة الثانوية بالكاف انظمّ إلى جامعة نوادي السينما، الجامعة التي أنشأت أجيالا أعلت راية الفكر النقدي. وجد الخياطي نفسه داخل بيئة تونسية هيأت وكوّنت شبكة من نوادي السينما وقد تأسست منذ سنة (1949)، من خلال مشروع أطلقه الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة ينطلق من فكرة تكوين ناد للسينما في كل معهد أو مدرسة ثانوية وهو ما اصطلح على تسميته جامعة النوادي السينمائية، وارتسم هذا المشروع بفعل أحباء الفكر والفن وعشاق الفن السابع بداية بالناقد والمؤرخ السينمائي ومؤسس أيام قرطاج السينمائية الطاهر الشريعة. في تلك النوادي اكتشف الخياطي شغفه بالسينما، وشاهد وناقش وكتب وتشبّع بالأفكار الجديدة والرؤى المختلفة، وأصرّ على الانفتاح دوما.
واصل رحلة تحصيله المعرفي في مدرسة ترشيح المعلمين قبل أن يتوجه إلى جامعة 9 أفريل بتونس العاصمة أين درس علم الاجتماع.. لينطلق بعد ذلك إلى مدينة الأنوار ويدرس في السربون قبل أن تشهد حياته منعرجا عندما افتتن بصاحبة الجلالة.. وكان في كل مرّة يولد من محنة ليواجه أخرى وليفتت محنة ليدخل في تجربة أخرى..
يحمل الخياطي مسيرة أكثر من نصف قرن بين النوادي الثقافية والسينمائية والجامعات والمنابر النقدية التلفزيونية والإذاعية وصفحات الكتب والجرائد، بين تونس وفرنسا، حيث اشتغل في رحلة بحثه عن المعرفة صحفيا، ومسؤولا عن الصفحات الثقافية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، ومستشارا ثقافيا بين مراكز ثقافية عربية بباريس. وكان في كل ذلك مهتما محبّا شغوفا بالسينما وقضاياها أكثر من أي شيء آخر، ومن وراء ذلك مهتما بقضايا وطنه الذي يشهد المراحل الأولى لتأسيس الدولة الوطنية.
في نهاية الستينات من القرن الماضي بعدما انتقل الخياطي إلى فرنسا لمواصلة تعليمه الجامعية في حقل الدراسات الاجتماعية والفلسفية، وتحصّل على الدكتوراه سنة 1983 حول «السينما والمجتمع في أفلام صلاح أبو سيف» من جامعة باريس 3، شهدت تلك الفترة حركات شبابية غاضبة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية مضادة للنظام المؤسسي تنادي بالحرية الإنسانية والحقوق المدنية وحقوق المرأة... في تلك الفترة احتكّ الخياطي مع هذا الشباب الثائر ومع النقاد والسينمائيين والمفكرين، بل وجادلهم وحاورهم، باعتباره ابن بيئة وثقافة مختلفة، ودوّن ذلك من خلال المؤلفات السينمائية النقدية التي نشرها..
رغم أنّ حياته في باريس لم تكن سهلة بالمرّة، حيث كان يشتغل في المقاهي أو المطاعم ليأكل ويحصّل قوت يومه ويدرس بل ويتفاني في دراسته، كان مؤمنا بنفسه رغم صعوبة تلك الأيام، فالكتب التي لا يتركها من يده صارت خياله وأجنحته، أما الأفلام التي تظلّ مشاهدها تحاصر أفكاره غدت مرايا عاكسه لبعد واقعه في عالم مليء بالمنعرجات، بالاختيارات المناسبة وغير المناسبة، وما من فرصة ضائعة في مسيرة الحياة.. فالضياع درس جديد بامتياز، هذا ما كان يؤمن أيضا إلى أن تعرّف يوما على أستاذ كلود ميشيل كلوني أستاذ سينما، والذي فتح له باب الوصول إلى مخرجين فرنسيين وسينمائيين، عندها أضاءت موهبة الخياطي للعلن بأنّ فرض بصمته فكرا ونقدا في العديد من الدوريات الفرنسية على غرار جريدة laction.. وبعد نشره للعديد من المقالات اختير كمقدم ومعد برامج سينمائية، في إذاعة فرنسا الدولية وفرنسا الثقافية، مخاطبا في آن جمهورا متنوعا من جنسيات مختلفة وهويات أكثر اختلافا، العربية والإفريقية والفرنسية.. وتنوعت تجربته بعد ذلك ليكتب في جريدة اليوم السابع والحياة اللندنية وجريدة le temps التونسية وغيرها من وسائل الإعلام التونسية والدولية، ونشر الخياطي أكثر من 20 كتابا فضلا عن مئات المقالات الصحفية والحوارات باللغتين العربية والفرنسية، أرّخ فيها إلى منعرجات حياته وتجاربه وأفكاره واهتماماته وكانت السينما الخيط الرابط بين جميع كتبه أو أغلب مقالاته..
عندما تتبادل مع الخياطي أطراف الحديث عن السينما أو عن شؤون الثقافة ككل ستلاحظ شغفا انبثق فجأة متوهّجا من كيانه وروحه، هذا الناقد الذي لا يجامل ولا يتطرّف أو يتعصّب لرأي أو موقف، فقد يتساءل ويحلل ويفكك المنهجيات ويستدلّ بالأطروحات، هذا الناقد الذي فرض احتراما ووزنا في فكريا لمهنته، الناقد الذي يتعامل بموضوعية مع جميع المبدعين ولم يكن تابعا لأحد بل كان وفيا لملكة النقد وباحثا عن المعرفة في كل مرّة.
عندما تجلس مع خميس الخياطي في إحدى مقاهيه المفضّلة في لافايات أو شارع الحبيب بورقيبة ستحصل على مشهد إنساني وجداني لكاتب صحفي وناقد بأبعادها الفكرية، والروحية والثقافية، وسيحملك إلى عوالمه وأدق أدق تفاصيل محنته ونعمته في آن: أن يفكّر الإنسان وأن يبحث في كل مرّة عن وعي جديد مهما كلّفه الأمر.. فالتفكير ورحلة البحث عن المعرفة أمر قيّم للغاية.. وستفهم أنه ينتصر دون قيد أو شرط في مواقفه للقضايا العادلة ولحقوق الإنسان الكونية والشاملة ولا يهادن مع الحقوق الفردية وينتصر للهامش دوما، ولا يتنازل لأي طرف أو ظرف عندما يتحدّث عن قضايا المساواة.
يمكن أن نعتبر أن تكريم خميس الخياطي في الدورة الأخير لأيام قرطاج السينمائية هو تكريم للنقد السينمائي، لفتح الباب على مصراعيه في ماهية «النقد الفني» الذي نراه اليوم، وهنا يطول الحديث!!! على كل حال هو تكريم للخياطي ومن خلفه إعلاء لقيمة النقد والتبصّر والتأمّل الذكي والواعي، النقد الذي يدفع للسؤال ويساعد الجمهور على تحسين معرفته وفهمه وتذوقه، وصفا أو تفسيرا أو تقييما وحتى تنظيرا حول فلسفة العمل الفني.. هو تكريم لكل من يحمل فكرا أو مشروعا لا يدنّس القيم الإنسانية الكونية..