عندما تتكلّم روعة التليلي ستلاحظ مباشرة ذكاءها الفطري وبساطتها وتلقائيتها.. تتقّد حيوية وتشعّ نقاء. في مجمل حديثها لم تتوقّف عن الصعوبات أبدا بل طوّعت ما اعترضها من حواجز لتصل إلى هدفها، وسرعان ما تحوّل الهدف إلى أهداف متتالية متلاحقة. فضّلت الحياة على أن تنزوي أو ترفض اختلافها الذي ولدت به.
تقول البطلة التونسية روعة التليلي: «عشت مع عائلة متصالحة، كانت طفولتي جميلة جدا، عائلتي من درجة متوسطة الحال، كانت لي أختان، وكان طولهما عادي بينما ولدت قصيرة القامة، عاملني أبي كما يعاملهما تماما، وكانت أمي ترسلني للشارع، تريد من ذلك أن أقبل نفسي وأحبها أكثر، لم أنعزل أبدا ولم أحبس نفسي في غرفة ولم أهرب من الحياة، مطلقا لم أفكر في ذلك».
وتتحدّث روعة عن والدها الذي آمن بها واعتبر اختلافها أمرا عاديا لا يستحقّ كل تلك الدراما التي يحكم بها المجتمع في كثير من الأحيان: «كان أبي تاجرا، وكنت أساعده في أعماله وأتدبّر معه أمور عمله، كان له «حمّاص» وكنت أعمل فيه وكان ذلك يسعدني للغاية، حتى أني كنت أرافق أبي منذ الصغر أينما ذهب، ولم يكن يكترث لذلك علما أن هذه المحلات للرجال فقط، أذكر أن تعطّلت سيارته وكنت أدفعها معه بكل ما أتيت من قوّة..».
في الحقيقة تريد روعة أن تثبت لنفسها وللجميع أنّها أهل للمسؤولية ويمكن أن يُعوّل عليها، ومن منا لا يريد أن يثبت ذلك لنفسه ومحيطه؟ قد تكون عندما دفعت سيّارة أبيها عندما توقف في الطريق تدفع نفسها أيضا، وتدّفع تلك الطاقة الوقادة خارجا ليفهم الجميع أنّ هذه البطلة الصغيرة لا تقف أبدا وتدفع إلى الأمام حتى تدور العجلة، عجلة الحياة، ربما ولدت «قصّة حبّها» مع دفع الجلّة عندما دفعت سيارة والدها التي توقف محركها، روعة كانت المحرّك والوقود في آن واحد، لا شكّ إنّ أعظم أمر يتفوّق به الإنسان على كلِّ ما في الوجود هو فكرة أن يتحدّى بكل ما أوتي من إصرار.
طوال حوارها مع الصحفية المغربية عزيزة نايت سي بها قالت روعة عبارة «بابا ما عندوش الراجل، أنا كنت الراجل ونعاون فيه»، وكررت هذه العبارة ثلاث مرّات لتتدخّل الصحفية أخيرا وتقول: «الأجمل أنّ لديه بنت وتقف إلى جانبه». يمكن أن نفهم الكثير عن بيئة روعة التليلي في مجتمعنا التونسي الذكوري المحافظ، إلا أنها لا تقصد أفضلية الرجل على المرأة أو أي شيء من هذا القبيل، لكنها قالت بلغة أخرى: « لقد فعلت ما لم يفعله رجل».
ونتعرّف أكثر عن حياة روعة التليلي ومراحل تنشئتها، ففي المدرسة قد يعفى الأطفال من الرياضة لمجرّد أنهم مختلفون، حتى لا نتجنّب تلك الكلمة العنصرية «معاق»، فحتى اللغة تطوّرت وتغيّرت ولفظت العنصرية من معانيها، وغيّرت من مفردات معاجمها فقديما يقال «رياضة المعاقين» ثم «رياضة ذوي الإحتياجات الخاصة»، لتصبح «رياضة ذوي الهمم»، لكن بعض العقليات لم تتطوّر وحافظت على تحجّرها.
وهنا تقول روعة: «كنت متصالحة مع نفسي، وأرى نفسي إنسانة عادية ولا أحمل إعاقة أبدا ولا أفهم لماذا يقول الناس كلمة معاقة. أنا ابنة الجنوب، لم تكن لدينا عادة أن تذهب البنات إلى قاعات الرياضة، وعندما انتقلت إلى المدرسة الإعدادية طلب مني أستاذ الرياضة أن أحضر له إعفاء، لقد حكم على جسمي مباشرة، وقال لي اذهبي إلى مركز الطب الرياضي واحضري منه إعفاء، طبعا في ذلك الوقت لم أفكر أن أذهب إلى مستشفى جهوي، ولا يوجد مستشفى أصلا، وأخذت كلامه كما هو، ربما خاف أن يصيبني مكروه عند قيامي بالرياضة، وفعلا أحضرت الإعفاء كما طلب مني، ولعبت الأقدار بعد سنوات فأصبحت رائدة الطب الرياضي».
تصوروا لو انكسرت روعة عندما طلب منها أستاذ الرياضة أن تحضر له إعفاء وفقدت ثقتها بتلك البطلة داخلها والتي تتوق للخروج؟ لم تفقد ثقتها في ذاتها، بل أكثر من هذا، وجدت له عذر أنه خاف عليها، ولم تحكم عليه كما حكم عليها. وهذه حقا روح الأبطال. لا تنكسر ولا تجعل أيا كان يفقدها ثقتها بنفسها ولا تحكم أبدا. ولهذا لطالما كانت تدفع لتغيير العقليات البالية المسيئة للروح الإنسانية.
وتضيف روعة «بجانب المعهد في قفصة كان هنالك حي على شاكلة الحي الرياضي، رآني مرّة المدرب محمد يحيى، فقال لي أنت مستقبل بطلة، فاتصل بوالدي وطلب منه أنّ يسمح لي باللعب في رياضة ذوي الهمم، وعليها أن تقوم بتصنيف لكي تُحدّد فئة الرياضة التي تتناسب معها، وأكّد عليه أنّ ابنته مشروع بطلة عالمية، وفعلا ذهبت إلى المغرب وتحصّلت على تصنيف فئة 41، وانتقلت إلى العاصمة بعد ذلك وكانت البداية».
نعم كانت بداية إخراج البطلة من قمقمها وبداية مسيرة الاحتراف، وكانت الأرضية جاهزة، روعة التي امتلأت ثقة ومحبة وإيمانا بنفسها ستثبت للعالم أنّ في اختلافها ثراء وعبر..
في الألعاب البارالمبية لم يُعترف بالأشخاص ذوي القامة القصيرة إلا في بداية الألفية الثانية كما أنّ اللغة تطورت لتسمى رياضة ذوي الهمم وقد استطاعت روعة أن تغيّر من نظرة المجتمع لذوي وذوات الهمم، بل صارت روعة تلهم العديد من «الأسوياء» على حدّ تعبيرها كي يؤمنوا أكثر بأنفسهم.
وهنا تضيف حول بعض السلوكيات المجتمعية : «مع الأسف مازال البعض يقيّمون الأخر مهما كان حسب شكله ومظهره ولا ينظرون إلى ذاته وروحه»، لكنها لا تحكم على العائلات التي يكون فيها ابن أو بنت من ذوي وذوات الهمم وتقول: «فمّ عائلات يقولو ولدي وإلا بنتي معاقة ما تلقاش خدمة، الدولة ما تخدمهاش، ما عندهاش مورد رزق قار، لشكون باش تقعد؟»
هنا أيضا يمكن أن نتحدّث عن واجب الدولة تجاه مواطنيها ومواطناتها من ذوي وذوات الهمم، فهم أصحاب أولويات في الرعاية والإحاطة والتعليم.. وهنا وجّهت روعة نداء للبشر: «علينا أن نحسّ ببعضنا البعض، ماذا لو كنت مكانهم؟ كيف ستكون حياتك؟ لا تحكموا علينا، ولا تنظروا إلى مظهرنا»
مشوار البدايات البارالمبية كان في بكين سنة 2008 عندما حصلت روعة على أول ميدالية ذهبية وحطمت في آن الرقم القياسي العالمي، وهنا تقول روعة :»لي قصة الحب مع دفع الجلة، وهي أكثر رياضة تتماشى معي، تحتاج الجلة إلى طاقة هائلة كي تدفعها»، في الحقيقة يا روعة كلنا نحتاج إلى طاقة هائلة كي ندفع أنفسنا فما بالك بدفع شيء ما، أو حلحلة أمر ما.
لم تكن روعة تفكّر في أن تصبح بطلة عالمية أو بارالمبية، كانت تريد ببساطة أن تتحصّل على ميدالية ذهبية وتأخذ المكافئة الرمزية وتساعد والدها، كانت هوس المسؤولية يتملّكها، كانت تتنافس مع ذاتها فربحت الجميع وتفوقت عليهم.
وهنا تضيف: «هنالك بطلات عالميات تعرّفت عليهن، من الصين والمغرب، مستوياتهن عالية احتكرن الأرقام القياسة، آمنت بنفسي كثيرا ولم أحتقرها واحتككت بهن ولعبت معهن، ومدربي الشخصي محمد علي بن زينة امن بقدراتي كثيرا، وقبل أي مباراة أخوضها كان كل تركيزي على دفع الجلة، ولا شيء غير دفعها إلى الأمام، صرت أحلم بعدما حطمت الرقم القياسي العالمي وتحوّلت الصعوبات التي كانت تعترضني في حياتي الرياضة والشخصية حافزا لي كي أدفع وأدفع وأدفع»..
عندما توفي «الراعي الرسمي» لروعة على حدّ تعبيرها، ذلك الذي أخذ بيدها وامن بها من البداية، توفي، وبقيت روعة دون والد وهنا تقول: «قبل أن تبدأ بدقائق أي مبارة أخوضها، أتّصل بأبي مباشرة، يمنحني طاقة كبيرة، في بطولة العالم في قطر سنة 2015 ، لعبت أوّل مباراة دون أن أكلّم والدي، فوضعت تحديا لي، هو أن أكرّم والدي بميدالية ذهبية، فكان ذلك، وتحصّلت على ميداليتين ذهبيتين في رمي الجلة ورمي الصحن، صحيح أنّني مررت بمرحلة دقيقة كي لا أقول صعبة، كنت في فترة ضعف وكان قلبي يؤلمني، لكن ذلك لم يوقف تلك الطاقة التي أرمي بها».
صدقت روعة، فالأبطال يحوّلون ضعفهم أيضا لا قوتهم فقط وقودا لكي يحلّقوا ولكي يوقدوا عزيمتهم.
وكما أنّ نكهة الألعاب الأولمبية لا تضاهيها أي نكهة، كانت التليلي سعيدة بتحطيمها للأرقام القياسية في دورة ريو ودي جينيرو، والتي حطمت فيها أيضا رقمين قياسيين وتحصلت على ميداليتين ذهبيتين.
أما في الألعاب الأولمبية الأخيرة التي أقيمت في بكين، والتي أقيمت بعد جائحة كورونا، تحدّثت روعة عن تجربة كورونا، وتجربة القلق العالمي مع وجود فيروس لا نعرفه، وقالت : «الذي يُرى من المشهد العام أنّ العالم كان واقفا، ذلك ما نراه ظاهريا، أنا عدت إلى قفصة، ولم أختلط بأحد خشية أن أمرض أصيب بالعدوى أحد أفراد عائلتي، كنت يوما اخذ سيارتي يوميا وأذهب إلى منطقة خالية وأتدرب لكي أحافظ على لياقتي، كان هنالك ضغط على عقلي، كانت فترة صعبة نوعا ما، وهنالك تساؤلات عديدة، هل ستقام الألعاب أو لا، ورغم ذلك هيأت نفسي رغم الضغط أنّ الألعاب ستقام يوما ما وأنه يجب عليا أن لا أتوقّف.. وفعلا حدثت الألعاب ولم تحصلت على ذهبيتين وحطمت رقمين قياسيين».
تعلّمنا روعة أنّ العقبات أشياء مرعبة إذا توقفنا عندها ولم ننظر إلى الهدف، وأن من يصمّم على بلوغ ما يريد لن يستطيع حتى الموت إيقافه، روعة درس للإنسانية جمعاء يقول أنّ الإختلاف مهما كان إذا طوّعته سيدرّ قيمة ومعنى، وقلادة ذهبية..
البطلة العالمية روعة التليلي التي يتسابق العالم أجمع لكي يصل إلى أرقامها القياسية لم تحتف بها الدولة التونسية حق قدرها، تستحق التكريم أكثر من غيرها، لا سيما أنّها رفعت راية بلدها كما لم ترفعه لاعبة من قبل.