هل تصدّق أنّ سيد الفرجاني ورضا الجوادي من أهل الديمقراطية والمنظّرين لها وحاملين لواءها وأعلامها وشعاراتها بل ومستعدّين للشهادة من أجلها ودفاعا عنها ؟ قلت ، يا صديقي هدّئ من روعك ، ألم تسمع بحكمة شاعر العراق العظيم معروف الرصافي حين قال ، لا يخدعنّك هتاف القوم بالوطن ، فالقوم في السّر غير القوم في العلن ؟ ألم تعلم بعد أن الإخوان إخوان على الدوام فيما بينهم ، ديمقراطيون مدنيّون تقدميون حسب الحاجة والوضع مع الآخرين ؟
هل غاب عنك أن أمرين لا يلتقيان ولا يتفقان ولا يتوافقان ولا ينسجمان : الأخونة والديمقراطية. الديمقراطية تحدّ من حركة الإخوان وتقيّدها بالقوانين وتضعها تحت رقابة المجتمع. والجماعة تزيل الديمقراطية من الوجود وتمحوها ولا تترك لها أثرا كلما ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. أما أن تدافع الجماعة عن الديمقراطية فتلك حيلة تحافظ من خلالها على مكتسباتها التي تستعملها في فرض شريعتها على المجتمع الذي يتحول تحت حكمها تدريجيّا إلى كيان مسلوب الإرادة .
الديمقراطية يا صديقي بالنسبة إلى جماعة الإخوان هي سلاح تستعمله من أجل أن يبدو وجودها في الحياة السياسية طبيعيا ، غير أن من بين العوامل التي تجعل وجودها شاذا وسط الأحزاب الأخرى ، أنها لا تطرح برنامجا وطنيا للتغيير بقدر ما ترغب في تغيير المجتمع من خلال الانحراف به عن مبادئه الوطنية الثابتة . إنها تعمل على تزوير المجتمع مثلما عملت دائما على تزوير عقول الناخبين وهو ما فعلته ولا تزال في تونس ، وأيضا في مصر والمغرب بشكل لافت قبل دحرها في هذين البلدين الشقيقيْن .
المدافعون عن الجماعة يرفعون الديمقراطية شعارا لهم ، وهو شعار مضلّل. لو لم يصطدم الإخوان بالديمقراطية في الحياتيْن السياسية والعامة لما تعرضوا للغضب الشعبي ولما طُردوا في مصر بعد سنة حكم يعتبرها المصريون أسوأ سنة مرت عليهم في تاريخهم المعاصر. أما في تونس فالحقيقة أن شعبها يستحق أعلى أوسمة ونياشين التكريم والتبجيل وشتى أنواع الجوائز العالمية المحتفية بحقوق الإنسان وقضايا الشعوب العادلة ، بالنظر لصبره عليهم عشر سنوات كاملة من عمره ، قبل أن يبادر أحد أبنائه صعد لدفّة الرئاسة في غفلة من الزمن ، لوضع حد لعبثهم بالدولة ومقدّراتها ومستقبل شعبها ، ذاق خلالها التونسيون شتى أنواع المهانة والإذلال في كل أوجه حياتهم ، حتى أصبح شعبا متسوّلا تمدّ دولته يدها لصرف معاشاتهم وإسعافهم بالتداوي والتلقيح من جائحة العصر كورونا .
لم تكن تونس ولا شعبها مستعديْن لتحمّل فنون مزيد التجريب الإخواني ، لذلك انقلب المزاج الشعبي مما أدى إلى سحب الشرعية من ممثل الجماعة في رئاسة مجلس النواب ، بل والمجلس برمّته ورفع الحصانة عن أعضائه ، والمطالبة بتعديل أو إلغاء ذلك الدستور الذي جاء بهم وخاطوه على مقاسهم ، ويتباهون بأنه درّة من دُرر دساتير العالم
تحرُكُ الشعب التونسي في إطار ديمقراطي ، لم تكن الجماعةُ على استعداد للقبول به ، لأنه لا يخدم مصالحها . كانت الديمقراطية سلّمها إلى للصعود إلى السلطة وليس مطلوبا أن يستمر الشعب في ممارسة حياته في إطار ديمقراطي.
ديمقراطية الإخوان هي انتخابات تقودهم إلى السلطة وكفى . بعد ذلك تبدأ الإصلاحات سعيا وراء قيام دولتهم الدينية المنشودة . هل يُعقل أن يحكم الإخوان دولة مدنيّة ؟ أمر لا يقبله العقل ولا يتماشى مع مبادئ الجماعة . لقد سعى الإخوان إلى أن يقيموا نموذج دولتهم في تونس ، فالمرشد الإخواني مدى الحياة راشد الغنوشي ، كان هو الحاكم الفعلي طوال السنوات العشر الأخيرة في حياة الشعب التونسي ودولته ، سواء من خلف الستار أو حين قرّر الصعود بنفسه على ركح المسرح والأحداث .
المصيبة أن هناك اليوم ممن يصنّفون أنفسهم بالديمقراطيين والتقدميين أحزابا وشخصيات ، من يدافعون عن شرعية برلمان مهزلة حوّله رئيسه الإخواني إلى ما يشبه المزرعة الشخصية له وللمؤلّفة قلوبهم حوله من رموز الفساد والإفساد والتطرف والإرهاب . حجّتهم في ذلك أن الرئيس قيس سعيّد قام بتحريض الشعب عليه تمهيدا لما أسموه بالانقلاب على الشرعية الدستورية . إنه التضليل واللعب على وتر قلب الحقائق وتزييف الواقع ، فإذا كان هناك انقلاب فإنه انقلاب الشعب على الإخوان بعد أن افتضحت حقيقتهم وحقيقة ما يرغبون في القيام به من خلال السلطة.
ولأن الشعب هو الوطن ، والوطن هو الشعب ، مارس الشعب التونسي حقه في وطنه وفي الديمقراطية وطرد الإخوان. وقد كان له ذلك يوم الخامس والعشرين من جويلية بفضل رئيسه ، وبعدها ها نحن نرى المليارات تنفق على الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ومراكز اللّوبيات المشبوهة في عدد من عواصم العالم ، من أجل تسليط الضوء على مظلومية الإخوان وإعادتهم إلى السلطة. لكن كل ذلك لم يجد نفعا.
كل هذه الحقائق كانت واضحة في عقل راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التي لا حاجة للتذكير بأنها فرع جماعة الإخوان في تونس ، وهو يدرك أيّما إدارك أنّ خيوط اللعبة لم يعد يتحكّم بها كما يشاء لا فقط على الساحة السياسية بل بدءا بحركته التي شهدت تصدّعا لا مثيل له منذ تأسيسها وموجة استقالات واسعة مسّت أقرب الأقرباء إليه .
لذلك لم ينساق الغنوشي وراء دعايات الديمقراطيين الذين يدافعون عن حركته التي انقلب عليها رئيس الجمهورية قيس سعيد ، واكتفى بالفرجة عليهم وبعض شتاتهم مدفوعي الأجر وهم يصيحون ويتوعّدون أمام المسرح البلدي بالعاصمة ، وهو الذي فشل في استنفار أنصاره فجر يوم 26 جويلية لنصرته ونجدته في مشهد مخز مذلّ وهو يستجدي ذلك الجندي للسماح له بدخول قصر باردو الذي يرأسه .
فبعد أن رحّب الشعب مسرورا بالإجراءات التي اتخذها سعيد ، لا يقبل الرجل الثمانيني بأن يضحك على نفسه. لقد انتهى عصره ولن ينقذه أحد من دعاة الديمقراطية ، فهو الآن يفكر بنجاته الشخصية ومخرج لائق يحفظ به ماء الوجه .
الغنوشي ليس ديمقراطيا حتى وإن كان أكثر قادة الإخوان لعبا على المفاهيم السياسية الحديثة ، ويُقال إنه الأكثر مكرا ودهاء . غير أنه من المؤكد أن الرجل باعتباره إخوانيا كان يفكر في أن هناك دولة ستهبّ لنجدته وتنقله سالما إلى أحد فنادقها . في جزء منه كان توقعه صحيحا لكن قرارات منع السفر والتتحقيقات الجارية عن التمويل الخارجي والانتخابات المزيّفة أوقفت ذلك بانتظار انتهائها .
الديمقراطية والحريات في تونس ليست في خطر كما يروّج الشعبويون. لقد هُزمت حركة النهضة وبان هُزالها على المستوى الشعبي، لكنّ المضحك في الأمر أن «الديمقراطيين» يدافعون عن حركة تخلّى زعيمها وأعضاؤها عن الدفاع عن سيرتها الأولى في الحكم ، بل واعترفوا ضمنيّا أنهم كانوا خارج التاريخ والجغرافيا ...