بعد أن تفطنت إلى أن سعيد جاء لتحطيم الكل في الكل، بما فيه وربما بالأساس حزب موسي، لأنها هي الصاعدة في سبر الآراء، بينما النهضة آخذت بطبيعتها طريق الانحدار المتواصل، قبل 25 وبعده؟
رد فعل موسي الأول يعبر كثيرا عما يحصل ولايزال على الساحة التونسية، على أساس المنطق الموالي: إذا كانت إبادة خصمي بإسقاط الكل على رأس الجميع فلا مانع في ذلك، بل هل من مزيد ودون شروط ولا حواجز ولا موانع!
لكن إذا كان لدى موسي من الفرامل ما يمكنها من التوقف واتخاذ وجهة عكسية تماما فإن «الشعب الكريم يمشي بكلو ويرجع بكلو، اذا كان ظهرلو باش يرجع!».
قد نكون مطالبين بتقديم نقد ذاتي في خصوص قيس سعيد واعتبارنا إياه مجرد ظاهرة لن تعمر. بينما يتبين أن الرجل واثق من نفسه ومصمم في أمره وغير مستعد للتراجع عن معتقده في أن «التمثيل تدجيل» وأن «الديمقراطية غطاء لصوص» وأن «كل الشرعيات قوالب فارغة» ما لم تستند إلى «المشروعية»، تلك التي يعطيها الشعب بشكل مباشر ومطلق للقائد الملهم، المعصوم وحده من الخطإ والضامن الأوحد للذود عن حقوق الشعب المقهور والمغلوب عل أمره والمسروق والمنهوب من طرف أصحاب المليارات.
وتتحرك الجوقات المأجورة بكثافة ووقاحة وبصفة آلية مفبركة ومبرمجة من مديريخيوطها، من خلال التظاهر بالسؤال البريء: «أين كنتم قبل 25؟»، بينما هم يعرفون حق المعرفة بأنه كانت هناك مبادرات مكثفة في ذروة الأزمة، مطالبة رئيس الجمهورية بالتحرك،ومعبرةعن استعدادها للدعم التشاركي لرفع التضييق والعزلة عليه، فرد على تلك المبادرات بالتهكم والسخرية.
أي أن مخطط الانفراد بكل شيء هو الأصل وليس وليد الحدث. وهي ظاهرة غريبة على الطبع السياسي التونسي الذي بني في ما بني على التجميع لأوسع القوى منذ فترة مقاومة الاستعمار ومرورا إلى بناء الدولة الحديثة، رغم نواقص ذلك الانفتاح وإقصائه لليسار الوطني والاجتماعي والحزب الشيوعي التونسي تحديدا وحلفائه حتى من الدستوريين المؤسسين من أمثال الزعيم سليمان بن سليمان.
موقف سعيد يثير العجب والاستغراب. وكأن الشعوب لم تمر بمثل هذه التجارب الديمقراطية وانتكاساتها والتي يأتي من بعدها «منقذون أفذاذ» يعدون الشعب بالجنة، شرط أن يتركهم طلقاء الأيدي بصفة مطلقة، وفي كل مرة وبدون أي استثناء وبعد كل الدعوات بأن «اتركوه يعمل! لا تعطلوه! لمَ كل هذا التسرع؟ ألستم من أنصار الفساد إذا عملتم على إفساد مخطط الرجل؟»، تكون النتيجة واحدة: خيبة الأمل.
قيس سعيد يطرح على التونسيين مقايضة: «إذا كنتم تريدون مني أن أريحكم من «المنظومة» اعطوني حكما مطلقا وصكا على بياض». ومن المعلوم أن المقايضة قبلت إلى حد ما، لا فقط من طرف الخرجة الشعبية مساء 25 جولية، ولكن أيضا من طرف أنواع وأشكال من المنتمين للنخبة، وسيتمتع قيس سعيد بناء عن ذلك بفترة زمنية للتقدم في تنفيذ مخططاته. لكن سوف تفشل العملية من حيث هي خاطئة من الأصل، لأن معالجة الاعوجاج بالاعوجاج طريقة في الإصلاح... معوجة.
هل أن ما يجري اليوم من نزعة للانفراد بالسلطة ووضع البلاد في إطار قانوني اعتباطي يعتبر كارثة؟ ليس أقل ولا أكثر كارثية من مهزلة برلمان التدافع والاحتراب والعجز وحكومة التفرج والضبابية. كل ما في الأمر أنها ستكون تجربة إضافية، معلومة النتائج لمن يفهم منطقها، لكنها ستستمر وتتواصل مادامت تتمتع بفرحة «تنحية الغمة».
أما بمرور الوقت، وليس بالوقت الطويل بالمرة، ستنفضح شيئا فشيئا الخرافة وتنكشف المهزلة وتتعرى قلة الكفاءة السياسية وحتى انعدامها، ومعها سيتعرى الملك وستتكثف الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية و»ستطير السكرة ويحضروا لمداينية»، وسيعود الرشد للأغلبية لتتعلم، بالتجربة وبالتجربة وحدها، أن مقاومة مظاهر الفساد وافتكاك الدولة وسوء التصرف والمحسوبية لا تكون بالوكالة بل بالمساهمة الفعالة والمباشرة والملتزمة والمناضلة في كل لحظة وكل مكان من طرف أوسع ما يمكن عددامن المواطنين على اختلاف مشاربهم ومواقعهم في الشأن العام، وأن الديمقراطية التي تعتمد فيما تعتمد على «الوسائط»السياسية والاجتماعية والمؤسساتية صيرورة ليست مثالية ولكن لا بديل عنها في الوقت الحاضر، يتم تفعيلها وتحسينها المستمر بالإتعاض بدروس التجربة وتجنب الأخطاء السابقة والبناء على الإيجابيات، خارج أي نزعة عدمية من نوع «لم ننجز شيئا منذ 2011 إل اليوم وكل الأمر ظلام في ظلام»، بينما هناك مكاسب وهناك ثغرات، تقريبا مثل كل التجارب البشرية، لا أكثرو لا أقل منها.