كيف تموت الديمقراطيات بقلم: مسعود الرمضاني

«كيف تموت الديمقراطيات» ، كتاب يبحث في سيرورة الديمقراطية الغربية والمخاطر التي تهددها مع بروز قيادات في السلطة ليس لها تاريخ سياسي،

ولا تجربة في ادارة الشأن العام وهي عادة ما تستخف بالمؤسسات الديمقراطية ولا تعير أي اهتمام للفصل بين السلطات ، و يريد الكتاب ان ينبه الى المحاولات التي ينتهجها عديد الحكام في اوروبا وامريكا من اجل تقويض الديمقراطية وفرض الحكم الفردي ، حتى في البلدان الراسخة في الديمقراطية ، مثل الولايات المتحدة خلال عهدة الرئيس ترامب.
وفي حوار حول كتابهما الذي جاء بعد دراسة متمعّنة دامت سنين وشملت عديد البلدان، يقول المؤلفان ستيفن ليفتسكي ودانييل زيبلات ، وهما استاذان للعلوم السياسية بجامعة كامبريدج، أن الديمقراطيات ومنذ الحرب الباردة ، اي منذ أكثر من ثلاثين سنة ، تموت في أغلبها على ايادي حكام منتخبين ، يستعملون مؤسسات الدولة لإضعاف وتقزيم الديمقراطية ، وعكس الانقلابات العسكرية التي تستولي على السلطة و تحدث التغيير بسرعة ، فان القيادات الاستبدادية، جاءت الى السلطة عبر اليات ديمقراطية ثم تأخذ وقتها في القضم التدريجي للمؤسسات والاستحواذ على الحياة السياسية من قبل الحاكم المستبد المنتخب ديمقراطيا ، الى درجة يصعب معها إزاحته عن الحكم ، وقد يأخذ هذا الامر سنينا أو عقدا من الزمن ، ولكن، في الاخير، ينجح المنتخب المستبد، احيانا، في وضع يده على السلطة لينفرد بها.
«الشعب النقي والنخب الفاسدة»
طبيعي أن للكتاب علاقة ببروز الشعبوية في العقد الاخير ، باعتبار ان لهذه الاخيرة ميل طبيعي للاستخفاف بالديمقراطية ومؤسساتها وتحويل وجهتها بغية تطويعها وحتى القضاء عليها إن امكن، ويعتبر دونالد ترامب من اهم الحكام الشعبويين الذين حاولوا تغيير قواعد الديمقراطية وارباك مؤسساتها والدفع نحو الاستبداد ، عبر رفضه نتائج الانتخابات الامريكية وكذلك هجوم أنصاره على الكونغرس، الشئ الذي يعتبره المحللون والساسة «احلك ايام الديمقراطية الامريكية»، ولما كانت هناك مؤسسات تكبله وتمنعه من الوصول الى الاستحواذ على كل السلطات ، فإنه لم يبخل بمساندة عن الديكتاتوريات في العالم ، من بلدان الخليج الى مصر ، مرورا بعديد بلدان جنوب القارة الأمريكية ، شعاره في ذلك «ما لا يمكن تحقيقه في الداخل يمكن فرضه في الخارج»...
وتعتبر الشعبوية الية فعالة لخنق الديمقراطية وتقويض مبادئها وضرب مؤسساتها ، وهي تحوّل مبادئ الاغلبية والاقلية في الحكم والمعارضة، المرتبطة دائما بالزمن الانتخابي ، الى معايير اخلاقية مبسّطة وقيم هلامية أحيانا ، اذ الأغلبية هم الشعب ، بنقاوته ونظافة يده وحسن سريرته وحبّه الخالص للقائد الذي يتكلّم باسمه و يعكس اهتماماته ويشعر بمعاناته وهو دائم الاستعداد للتضحية من اجله، حتى وان اعطى حياته ثمنا لذلك، الشعبوية باختصار تتغذّى من الصراع الدائم بين «الشعب النقي والنخب الفاسدة»، كما حددها بدقة الأكاديمي الهولندي، Cas Mudé
قيس سعيد ليس هو من ابتدع «الشعب يريد»:
لم يدشن قيس سعيد هذه الحقبة بشعاره الشعب يريد، لا بجولاته في شارع الحبيب بورقيبة ولا في عديد الأماكن الأخرى ، ولقاءاته المباشرة مع «الجماهير» الذين يحدثهم ويستمع إليهم ويقدم لهم الوعود ويحذرهم من الخونة والفاسدين، حتى في اوج عدوى الكوفيد ، بل بدأت بشعارات الثورة سنة 2011 التي، على جمال بريقها وعموميتها واختزالها لمطالب الشعب، كانت تخفي غياب افاق سياسية وبرنامج ثوري وبديل محسوس ومفصّل يستجيب الى الحاحية مطالبها ، ثم تكرست الشعبوية منذ أول انتخابات بعد الثورة عبر استثمار مظلومية النظام السابق واستدعاء عامل الدين والتدين «كعلاوة اخلاقية « ومحاولة تأبيد البقاء في الحكم «بالطرق الديمقراطية» وتقزيم الخصوم السياسيين (الصفر فاصل) ومحاولات الاستيلاء على مفاصل الدولة بوضع اليد على جلّ أجهزتها والتلكؤ في تكوين المؤسسات الدستورية ومحاولة تعطيل تلك التي نجت من الاحتراب الحزبي والإيديولوجي ، وبناء تحالفات ظرفية تتغيّر حسب المصالح ، مع إصرار دائم للبقاء في السلطة ، حتى وإن كان الثمن إغراق البلاد في ازمات مستمرّة.
استمالة الناخب عبر شعارات ساذجة:
لقد نجحت بعض التيارات الشعبوية التي لا تحمل رؤية سياسية واضحة ولا تمتلك برامج اصلاحية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية في استمالة الناخب عبر شعارات براقة وساذجة، شعارات مثل «وينو البترول؟» و»وينو الملح؟» مستغلة الإحساس الشعبي بالسيادة الوطنية والتوق الى العدالة الاجتماعية والحوكمة الرشيدة في إدارة ثورات البلاد ، و كان لابد من اضافة المؤامرة الخارجية لبرنامجها الهلامي ليكتمل نصاب «الغيرة الوطنية» فتحدث ، مثلا ، أحدهم عن «المؤامرة الخارجية والادوار الذي تلعبه الاستخبارات الاجنبية لضرب الثورة التونسية»، لكن الامر الوحيد التي نجحت فيه تلك التيارات هو احياء النعرات الجهوية و الدفع نحوتعطيل الانتاج في بعض الجهات، مما اثّر سلبا على اقتصاد البلاد...
وتتعدد وسائل «الإقناع» لدى هذه التيارات ، بين خطاب سياسي مبتذل وهابط ، يمزج بين الوعود الزائفة والسب والشتم للخصوم وبين ادوار استعراضية تحاول دائما جلب الانتباه وتصل الى حد التهديد والتخويف والعنف...
استجابة لمزاج شعبي غاضب:
يستجيب الخطاب الشعبوي لمزاج شعبي غاضب وفاقد الثقة في الأحزاب السياسية والنخب ويستثمر فيه، ولكنه يشكل خطرا على المؤسسات الديمقراطية ، لانه يروّج الى خطاب تهديمي لكل الهيئات الدستورية والمؤسساتية ، باعتبارها «حاجزا بين القيادات وبين الشعب «، الذي يمثل «الاغلبية الصالحة» أو «الاخيار «كما تسميهم الباحثة الايطالية ، ناديا اوربيناتي Nadia Uribinati في «انا الشعب ، كيف حوّلت الشعبوية مسار الديمقراطية».
وان تأتي الشعبوية في نسق فشل الطبقة السياسية والنخب في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية ، إلا أنها تتحوّل بدورها الى ازمة حين تصعد الى الحكم ويثبت لها ان تحديات السلطة أعمق من الخطابات المبسطة والحلول السريعة والمواقف الاستعراضية التي تستهوي العامة ، ولا ادلّ على ذلك من فشل الاحزاب الشعبوية في اوروبا وامريكا في مواجهة تحديات جائحة كوفيد ،، ولكن تظلّ عودة الأحزاب التقليدية مرتبطة بمدى قدرتها على استنباط حلول واقعية للأزمات الاجتماعية المتتالية، وهذا ليس بالامر الهيّن.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115