تأملات في الديمقراطية التونسية وفي مستقبلها بقلم: الصادق الحمامي أستاذ التعليم العالي بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار (الجزء الثاني)

• فهم الحاجة إلى زعيم في مجتمع سائل:

نسعى في هذا الجزء الثاني إلى تفكيك الاتصال الرئاسي الذي نتعامل معه هنا باعتباره موضوعا بحثيا يقتضي الحياد والموضوعية، إذا أردنا أن

نفهم كيف يشتغل نموذج الزعامة التي تسم ممارسة قيس سعيد السياسية. وفي هذا الإطار لا بد للباحث أن يواجه مخاطر تتربص به لدى المتلقي الذي قد يعتبر مثل هذه النصوص تجنيا على الرئيس، إذا كان من المناصرين، أو تمجيدا له إذا كان من مناوئيه.
تحولات الخطاب الرئاسي
لم ينفك الاتصال الرئاسي عن التغير. ويمكن أن نميز بادئ ذي بدء بين حقبتين. فقد تميز الاتصال الرئاسي في الحقبة الأولى قبل اعتلاء قيس سعيد منصة الرئاسة بما يمكن أن نسميه اتصالا لطيفا une communication bienveillante إزاء الأحزاب التي ساندته وإن كان قد عبّر بطريقة صريحة في بعض الحوارات الصحفية النادرة عن مواقف مباشرة غير نمطية (وقد تكون صادمة) من بعض القضايا . لقد كان المترشح قيس سيعد يبدو في هذه المرحلة الأولى دائم الابتسامة لا يميل أبدا إلى تصريح ما يمكن أن يجرح الآخرين حتى ولو كانوا منافسين له.
ثم دخل الاتصال الرئاسي في حقبة جديدة عند إلقاء الرئيس لخطاب التنصيب. ففي حين كان بعض المعلقين ومساندي المرشح المنهزم يرون في انتصار قيس سعيد «كارثة حلّت بالبلاد»، و«مؤامرة تجندت لها قوى داخلية وخارجية بواسطة المجموعات الفايسبوكية»، كان قيس سعيد يلقي خطابا مبهما لمن كان يستمع إليه، خطاب دشن نوعا جديدا من الاتصال الرئاسي يقوم على أن فوز الرئيس يجسد حدثا خارقا. ولا يبدو أن الحاضرين في جلسة التنصيب في البرلمان -كما كانت تقاسيم وجوه بعضهم تشي بذلك- يفهمون ما يقوله الرئيس، بل يبدو أن قيس سعيد (الرئيس الجديد) بدأ يتفطن إلى أن هوة ما تفصله عن النخبة التي تستمع إليه وعن من يستخف بما حصل بانتخابه قائلا : لقد «استعصى على الكثيرين في تونس بل في العالم بأسره فهم هذه اللحظة التاريخيّة». (مقتطف من خطاب قيس سعيد أمام البرلمان التونسي)
يرى قيس سعيد في فوزه في الانتخابات حدثا «أذهل العالم بأسره وأن الحدث الذي أنجزه الشعب «لم يسبقه إليه أحد، (ف) هو ارتفاع شاهق غير مسبوق في التاريخ، بل هي ثورة حقيقية بمفهوم جديد لأنّ الثورات تقوم كما هو مألوف ضدّ الشرعيّة ولكن ما حصل في تونس هو ثورة حقيقيّة بأدوات الشرعيّة ذاتها، ثمّ هي ثورة ثقافيّة غير مسبوقة أيضا، والثورات الثقافيّة ليست كتبا تنشر، أو مناشير توزّع بل هي وعيّ جديد، أو هي وعيّ يتفجّر بعد سكون ظاهر وانتظار طويل، هي لحظة تاريخيّة يتغيّر فيها مسار التاريخ، بوعيّ الشعب بأنّه قادر على تغيير مساره، في الاتجاه الذي يريد.»(مقتطف من خطاب قيس سعيد أمام البرلمان التونسي).
«ثورة داخل الثورة»
نحن نرى هنا المعنى الذي يعطيه قيس سعيد لانتخابه والذي غفل عنها الكثيرون والذي قد يفسر العلاقة «الرومانسية» التي أصبح يعتقد أنها تجمعه بالتونسيين الذين صنعوا هذا الحدث الذي «أذهل العالم على ما بذلوه من جهود مضنية في المدن وفي القرى، في الأرياف وفي الجبال، وفي السهول، تحت أشعّة الشمس الحارقة، وتحت الأمطار المتهاطلة، على ظهور الدّواب، وعلى الأقدام، لأنّهم أقرّوا العزم على المضيّ قُدُما في صنع تاريخ جديد، بل هم آثروا الموت، من أجل الحياة، آثروا الحريّة، والكرامة ولن يرضوا عنهما بديلا».وعلى هذا النحو فإن قيس سعيد يرى نفسه أمينا على ما يريد الشعب (الأمانات التي فصّلها في خطابه). لقد نجح قيس سعيد في أن يقدم نفسه على أنه من يجسد السياسة البديلة (لم يجعل من زوجته سيدة تونس الأولى، وظلّ يسكن في بيته في المنيهلة لفترة ما ويحتسي القهوة في المقهى الذي كان يرتاده، إضافة إلى رفضه التمتع بتمويل الحملة الانتخابية وعدم التحزب والنأي بنفسه عن إطلاق الوعود الانتخابية...).
وصل قيس سعيد إلى السلطة عام 2019 بعد خمس سنوات تميزت بصراعات عنيفة داخل حزب نداء تونس وسقوط الأحزاب الكبرى (نداء تونس وحزب حركة النهضة) في مصيدة خيانة ناخبيهم وتمكن بالتالي من تعزيز صورته بما انه السياسي النظيف المتشبث بأخلاقه الذي لا يرى في السياسة فن المناورة وفن عقد التحالفات وفضها وإعادة عقد تحالفات جديدة. إن ما يرد أن يجسّده قيس سعيد هو على نحو ما «ثورة داخل الثورة»، ثورة على السياسة الميكيافلية التي هي في نظر التونسيين فنّ الوصول إلى السلطة والتلاعب بالآراء والتراجع عن الالتزامات والوعود فأضحت غير أخلاقية، سياسة «سياسوية» يديرها محترفو السياسية (les politicards) المنشغلون بإدارة شؤونهم الحزبية (صراعاتهم) وبالسيطرة على السلطة.
زعيم صلب في مجتمع مضطرب
عزز قيس سعيد من صورته كـ«كائن صلب» في مجتمع طغى فيه الهوس بالظهور الاجتماعي والبحث عن المنافع والواقعية والمصلحية التي تقتضي التراجع عن المواقف أو تغييرها بحسب المصالح... هكذا يبدو الرئيس مختلفا عن التونسيين أو على الأقل التونسي المتوسط في كل شيء، بل إن الاتصال الرئاسي استمر في تغذية هذا التمايز عن ملمح التونسي العادي، إضافة إلى التمايز عن السياسيين وهو يقدم نفسه بديلا لهم، تعزيزا للإيتوس الرئاسي Ethos القائم على الفرادة. وقد يكون هذا التمايز ما يفسّر حظوة قيس سعيد لدى فئات واسعة من الشباب الذي قد يمثل بالنسبة إليهم صورة الأب الماسك بزمام الأمور، الغليظ في مجتمع يعرف كل أنواع الاضطرابات بمعنىdésordres مجتمع سائل société liquide(مفهوم وضعه العالم الاجتماع زيقمونت بومنت Zygmunt Bauman ) عرفت المؤسسات التقليدية فيه تراجع أدوارها وشهدت فيه الأنظمة الاجتماعية والسياسية خلخلة بما في ذلك أنظمة السلطة.
يعبر قيس سعيد عن الحاجة إلى الزعيم-الأب في مجتمع مضطرب فقد السلطة السياسية الفوقية التي كانت تنظمه، فتتوفرت فيه من هذا المنظور كل صفات الزعيم الأب والسلطة القديمة في مجتمع متحول. يتحدث قيس سعيد العربية الفصحى في مجتمع فقد كفاءة اللغة بشكل عام وكفاءة اللغة العربية بشكل خاص. وهو يتصرف كالمعلم في مجتمع فقد فيه المعلم مكانته الاجتماعية والاحترام الذي نقتضيه تلك المكانة. كما أنه يتصرف كالأب حريص على مصالح أفراد أسرته. هكذا تحيل الحاجة إلى رئيس قوي غليظ صارم غاضب (يواجه الحديد بالحديد) حليم بالشعب قاس على من يعتدي على حقوقه إلى مفارقة سنسعى الآن إلى بيانها. لقد طور الرئيس اتصالا رئاسيا أحاديا وأبويا، بالاستئثار بحق الكلام في الاتصال الرئاسي. فيتحدث أمام الآخرين اللذين يستمعون. ولا شك أن رفض مبدأ الحوار الصحفي متصل بإستراتيجية الحفاظ على الهيبة الرئاسية وعلى مقام الأب الذي يفترض أن العلاقة بالرئيس قائمة على الاستماع فما بالك بالمساءلة التي يفترضها الحوار الصحفي، حتى ولو كان شكليا ترويجيا.
لقد تتطور الاتصال الرئاسي نحو نموذج أحادي وسحب الرئيس نفسه من كل الأطر التي يمكن أن يتفاعل فيها مع الآخرين. لقد ظهر قيس سيعد في بعض البرامج الحوارية في المناظرات فقط ثم قبل بالظهور في بعض البرامج التي يحاورها فيه صحفي بعد فوزه. ثم تخلى عن هذا الشكل واعتمد اتصالا جديدا يكون فيه هو المتكلم الوحيد أمام الآخرين مهما كانت صفاتهم.
تتمثل المفارقة في أن الاتصال الرئاسي الأبوي والتعليمي والأحادي يجد حظوة لدى فئات واسعة من الشباب نشأت في بيئة رقمية ازدهرت فيها كل أنواع التفاعلية، بيئة رقمية عطلت أساليب الاتصال العمودي والهرمي. لقد ساهمت البيئة الرقمية على تنشئة الشباب على المشاركة والتعليق وعلى أبداء الرأي في كل شيء، شباب نشأ في بيئة أسرية فقد فيها الأب سطوته التقليدية وفي بيئة ثقافية فقد فيها المعلم سلطته الردعية. إن «نجاح» نموذج الاتصال السياسي الهرمي والأبوي والأحادي قد يكون متصلا بلا شك بالحاجة إلى هذا الزعيم الأب في مجتمع مضطرب.
زعيم فوق المساءلة
الصفة الثانية للاتصال الرئاسي هي إلغاء الوسائط الذي يمكن تفسيره أيضا برؤية سياسية مخصوصة للوساطة السياسية. فالنفور من الأجسام الوسيطة من سمات الشعبوية بما أنها أسلوب في الاتصال السياسي أكثر منها إيديولوجية أي رؤية سياسية للمجتمع والسياسة والاقتصاد كما تؤكد ذلك الأدبيات البحثية عن الشعبوية باعتبارها إيديولوجيا رهيفة(thin ideology) . والحقيقة أن عملية إلغاء الوسائط هي عملية أو فكرة نجدها في كل الأحزاب الشعبوية. لكن يبدو لنا في هذا الإطار أن هناك تفسير أخر ممكن لإستراتيجيات الاتصال الرئاسي لاستبعاد وساطة الصحافة.
إن رفض الرئاسة أن يكون لها ناطق رسمي متصل برفضه من أن تتوسط أجسام ما علاقته بالشعب بما في ذلك الوسائط التي يمكن أن تكون امتدادا له، رغبة منه في السيطرة الكاملة على إدارة صورته. أما استبعاد الصحافة من الاتصال الرئاسي فإنها تتمثل في استبعاد وساطة الصحفي ومن ثمة الأدوار التي يمكن أن يقوم بها. هكذا قد يكون الاتصال الرئاسي مؤشرا على هذا النفور من المداولة وأشكالها المختلفة والمراهنة على النقاش باعتباره وسيط الرأي العام حتى أن إستراتيجية الاتصال الرئاسي لا تجعل من الصحافة حلقة وصل courroie de transmission  فقط بل إنها لا تقر بوجودها أصلا، مساهمة هكذا في تفتيت الفضاء العام، باستحداث ما يمكن أن نسميه فضاء تواصليا سياسيا خاصا بالرئيس.
توجد إذن ديناميكيات اجتماعية وتواصلية وسياسية عديدة تتقاطع بشكل فريد في شخص قيس سعيد الرئيس يمكن أن تعبر عن مفارقات منها هذه المفارقة الأخيرة وهي أن قيس سعيد (قبل وصوله إلى الرئاسة) تمتع بأنواع بعينها من الظهور في التلفزيون (في نشرات الأخبار وحتى في الكاميرا الخفية) أي أنه شيّد ظهوره بمعنى visibilité في المجال السياسي وفي الفضاء العام بواسطة الميديا، دون أن يكون له برنامجا سياسيا أو حزبا سياسيا يستند إليه. ويرتبط صعوده من هذا المنظور بطبيعة الديمقراطية التونسية نفسها التي هي اليوم موضوع كل الانتقادات أي مشهدة السياسة. وعلى هذا النحو فإن الفوز في الانتخابات الرئاسية لا يمكن فصله بما يسميه بارنارد مانان Bernard Manin «ديمقراطية الجمهور»  La démocratie du public التي تتراجع فيها أدوار البرامج والأفكار لصالح الشخصيات الاتصالية التي تجيد فنون التأثير والتي يتصرّف فيها الناخبون تحت تأثير الصورة كبديل عن قوة الأفكار.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115