حتى لا يكون الحوار حوار الصمّ أو حوار الصفقات

بقلم: مصطفى بن جعفر
بعد أكثر من 11 سنة من ثورة الحريّة والكرامة التي نادى خلالها الشباب الثائر بصوت واحد «شغل،حريّة، كرامة وطنيّة»

وشهد على إثرها وطننا تحوّلا سياسيّا واجتماعيا في العمق وتحرّرت بمفعولها الكلمة وإرتفعت الأصوات وأحدثت المنابر وإستبشرنا خيرا لمستقبل بلادنا التي عانت من عقود من الاستبداد والإنفراد بالرأي.
وعلى الرغم من أنّ العديد من المكاسب تكرّست وأصبح من الصعب التراجع عنها، إلاّ أنّ المتابع للشأن العامّ يلاحظ بما لا يدع مجالا للاختلاف أنّ ما آلت إليه الأوضاع خاصّة في ظلّ تواصل مناخ الفوضى العارمة التي نعيشها منذ 2014، قاد البلاد إلى أزمة مؤسساتية حادة ومخطرة.
شخصيّا، كنت قد ناديت مرارا وتكرارا بالإسراع في تركيز المؤسسات الدستورية وإرساء المحكمة الدستوريّة واحترام آجالها المضبوطة بالنصوص الواضحة واستكمال البناء الديمقراطي، ولكن كانت الإجابة دوما التملّص من المسؤولية والاحتجاج بأن ضبط الآجال لم يكن القصد منه سوى «الاستحثاث» لا غير! وأنّ الخلل كلّ الخلل يكمن في النصوص لا في الأشخاص والممارسات.
اليوم وبعد إهدار أكثر من ست سنوات في توافقات مغشوشة، أصبح المسؤولون يبحثون عن مبررّ لفشلهم فـ«يكتشفون» أن الخطأ يكمن في «الشروط التعجيزية وأغلبية الثلثين» التي وضعتها الأغلبية المنبثقة عن انتخابات 2014 في قانون المحكمة الدستورية، عملا بالمثل التونسيّ الشهير: «خانها ذراعها، قالت مسحورة».
كان من المفترض أن يضع الجميع أوزار الانتماءات السياسيّة جانبا وان يغلّبوا مصلحة الوطن لا سيّما عبر مواصلة البناء الديمقراطي والخروج نهائيّا من التأسيس (النص الدستوري) إلى المؤسسّات، لكن للأسف خيّرت الأحزاب الفائزة في انتخابات 2014 اللجوء إلى عمليّة توافق مصلحي لم يكن الهدف منه سوى توفير الحد الأدنى من السلم الاجتماعي فكانت النتيجة - وعلى الرغم من توفّر أغلبية برلمانية مريحة – حكومات غير متجانسة فشلت فشلا ذريعا في تركيز المؤسسات الدستورية وكذلك في إطلاق الإصلاحات الضرورية.
والنتيجة الحتميّة لكلّ ذلك هي ما نعاينه اليوم في المشهد السياسيّ المترذّل الذي طغى عليه الاحتقان والخطابات المتطرّفة من هذا الطرف وذاك، تعطيل لسير مؤسسات الدولة وتهريج في البرلمان، ولا من منصت أو من مجيب لكلّ دعوات التهدئة والعودة إلى الجادة. بل العكس تماما هو الذي حصل، مزيد من الاحتقان وانحدار أخلاقي وسياسي في الخطاب والممارسة لم يستثن أحدا، بل تطاول حتّى على شخص رئيس الجمهورية وما تمثّله رمزيته داخليا وخارجيا من هيبة وجب احترامها مهما كان حجم الاختلافات.
اليوم، وفي غياب المحكمة الدستورية التي من شأنها أن تضع حدّا لما يبدو تنازعا بين السلطات، وأيضا في ظل الأزمة الخانقة التي تهدد البلاد بالإفلاس، يبقى الأمل الوحيد في تفعيل الحوار الوطنيّ حسب ما اقترحه الاتحاد العام التونسي للشغل وعرضه في نوفمبر 2020 على الرئيس قيس سعيّد في شكل «مبادرة الهدف منها رسم إستراتيجية وطنية للخروج من الأزمة ووضع المشروع الأوّل لعقد اجتماعي جديد يراهن الاتحاد على أن يكون محل توافق وإجماع بين مختلف الأطراف.
لقد انقضت أكثر من ستة أشهر منذ تقديم الاتحاد لمبادرته وما لقيته من تفاعل إيجابي من رئيس الجمهورية، ولعلّ ما يفسر ولكن لا يبرّر كل هذا الانتظار والتردد، هو أنّ لكل طرف من الأطراف المتنازعة تصوّره الخاص لمجريات الحوار وأهدافه المرتقبة، ولم يقع الاكتفاء بتقديم التصورات وما يؤيدها من حجج بل تكاثرت المبادرات والمناورات وتعبئة الرأي العام والتلاسن عبر وسائل الإعلام مرورا بحشد الشارع وصولا إلى الإعلان الصريح عن العداء واستعمال كل أساليب المغالبة في عمليات متتالية لليّ ذراع الخصم طمعا في تحقيق انتصارات وهمية.
- والسؤال المطروح اليوم يبقى: لماذا يتعطّل الحوار؟ ومن المسؤول عن تعطّله؟
- قلّة قليلة كلّفت نفسها عناء التعمّق في السبب الأصلي لما يبدو تصلبا في موقف الرئيس قيس سعيد، في حين أن الجواب نجده في المشروع الذي أعلن عنه و يريد من خلاله أن يغيّر قواعد اللعبة وأن يتجاوز «المنظومة» الفاسدة والأساليب التقليدية وما ينعته الرئيس بـ»الصفقات» التي أبرمتها النخبة السياسية المحترفة في اختلاق الأزمات والتي قادت البلاد إلى ما تعيشه من وضع خطير على كل المستويات لتصل إلى حدّ فقدان الشعب ثقته فيها وفي الأحزاب المتنافسة وحتى في المؤسسات المنبثقة عن الانتخابات.
وبعد طول انتظار، جاء اللقاء الأخير الذي جمع رئيس الجمهورية برئيس مجلس نوّاب الشعب ليمثل فرصة لإذابة الجليد ورفع الحضر على لقاءات ضرورية بين المسؤولين في الدولة يفرضها بداهة كل سعي جديّ إلى تجاوز مكامن الاختلاف، واعتقدنا أن هذا الانفراج النسبي ستتلوه مبادرات تدفع في اتجاه فتح باب الحوار على مصراعيه، ولكن سرعان ما فوجئنا بما حصل من لقاءات وتصريحات عادت بنا إلى الغموض بخصوص تصور رئيس الجمهورية لمجريات الحوار الوطني وأهدافه إضافة إلى ما أحدثته من توتر لا طائل من ورائه في علاقة الرئيس بالشريك الأقرب الاتحاد العام التونسي للشغل.
- وبقدر ما يمكن فهم تحفظ الرئيس على الزج بنفسه في التعامل مع «المنظومة» و حرصه على تجنب ما قد ينجر عن ذلك من مساس بمصداقيته، فإني أتساءل بشيء من القلق عمّا يدفع رئيس الجمهورية إلى طرح مسألة مراجعة الدستور و نعته بشيء من التسرع بل ومن التجنّي بـ» دستور المساومات»، علما و أن دستور 2014 دستور تشاركي بامتياز. ويكفي للتأكد من ذلك أن نستعرض مراحل صياغته ومساهمات الخبراء والأخصائيين في القانون الدستوري وندوات النقاش المواطنية التي انتظمت في كل جهات البلاد وحتى خارجها واللقاءات مع جل مكونات المجتمع المدني، وقد كلل المسار بالمصادقة على نصّ الدستور بما يشبه الإجماع في 27 جانفي 2014 فكان عنوانا نادرا للوحدة الوطنية.
- هل نريد إصلاح أمرنا في إطار الشرعية الدستورية أم خارجها؟
هل يجوز لنا أن نطرح مسالة تعديل الدستور في هذا الظرف العصيب الذي تمر به البلاد وتواجه فيه أزمة خانقة متشعّبة، صحيّة وماليّة واجتماعية واقتصادية، أليس هذا هدر للطاقات وتحويل للاهتمامات والمجهودات عن البحث في الحلول المناسبة للمشاكل الحارقة التي أودت بحياة الآلاف من التونسيين والتونسيات وأثقلت كاهل المواطنين وخاصة ضعاف الحال منهم ووضعت السلطة في خانة التسول المهين لدى المانحين الماليين، ثمّ وبدون الدخول في نقاش حول أفضليّة نظام سياسي على آخر أو فائدة اللجوء إلى الاستفتاء في تونس وهي على ما هي عليه من فوضى وتمزق، هل يجوز طرح مراجعة الدستور أو تنظيم استفتاء في غياب المحكمة الدستورية ؟
سؤال آخر يفرض نفسه: أي تناسق بين هذا الطرح وما جاء في البلاغ الذي أصدرته رئاسة الجمهورية بداية جانفي 2021 و أكدت فيه على « قبول الرئيس لمبادرة الاتحاد مع الإعلان عن قبول إجراء حوار لتصحيح مسار الثورة»؟ و قد استبشرت آنذاك مثل أغلبية التونسيين بوضوح الإطار الذي حددته رئاسة الجمهورية و تميزت به عن أطراف سياسية وازنة. أما اليوم فإن ما يتداول من تغيير في جدول أعمال الحوار يطرح سؤالا لا نجد له جوابا مقنعا: بأي منطق يمكن إدراج تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي في إطار «تصحيح مسار الثورة»؟ هل هي نفس الثورة التي طالب شبابها خلال «اعتصامات القصبة» بالقطع مع دستور 1959 الذي قاد إلى الانفراد بالحكم و الاستبداد و الفساد ؟ هل هي نفس الثورة التي فرضت الدعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي وصياغة دستور جديد؟
إنّ ما يدعو له رئيس الجمهورية اليوم من تعديل لنصّ الدستور قبل استكمال مؤسساته وتقييمه بصفة موضوعيّة خلق لدى المؤمنين بضرورة «تصحيح مسار الثورة» ارتباكا خطيرا وشوّش عليهم معايير الفرز بين من يسعون إلى العودة إلى الوراء وغلق قوس الثورة تحت عنوان «الجمهورية الثالثة» ومن يريدون عن حسن نية مراجعة الدستور من أجل سد ثغراته و تدقيق صياغته بالشكل المناسب و في الوقت المناسب. أما عمن يرومون العودة إلى دستور1959 فحدث و لا حرج !
كنا إلى حدود الأيام الأخيرة أمام تباين حقيقي في المنطلقات والتصورات بين الأطراف المعنية بالشأن السياسي. رغم ما حصل من تعويم لأسباب التباين الحقيقية عبر التركيز المفرط على مظاهر الإثارة عند الحديث عن التوتر غير المسبوق بين رئيس الجمهورية و الحزام السياسي لرئيس الحكومة بقيادة حركة النهضة الحزب الأكثر تمثيلا و استقرارا في البرلمان، و كان السؤال المطروح كيف يمكن في السياق الحالي الذي تمر به تونس أن نضع من ناحية حدا لهذا الانزلاق الخطير الذي سيقود حتما إلى تصادم مجهول العواقب، و من ناحية أخرى كيف نوفر للحوار شروط الانطلاق والنجاح.
أما اليوم و بعد اللقاء المهم الذي جمع بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان و ما يشير إليه من ذوبان الجليد وانفراج في العلاقة، و بعد صدور البلاغ الأخير لمجلس شورى النهضة و ما يوحي به من استعداد لمراجعة السياسات، فقد أصبح الجلوس إلى مائدة الحوار ممكنا وهو ما يفرض على الفاعلين الأساسيين توضيح الإطار والأهداف التي سينطلق الحوار على أساسها، عاجلها و آجلها.
إنها مسألة جوهرية إذا أردنا الخروج من الضبابية وحتى لا يكون الحوار حوار الصمّ أو أسوأ من ذلك حوار الصفقات.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115