كـــارثة اسمها الاستفتاء

بقلم أيمن البوغانمي
لقد ظهرت في تونس مؤخرا جبهة تسمي نفسها بجبهة الاستفتاء. وهي تدعو إلى استفتاء شعبي من أجل تغيير النظام السياسي.

وتلك دعوة صريحة لتجاوز الإجراءات الدستورية في ظل غياب المحكمة الدستورية من أجل تحقيق هذه الغاية.
يتهم بعض هؤلاء كل من يشكك في شرعية هذه الوسائل بأنهم لا يثقون بالشعب. ماذا يحتاج هؤلاء كي يفهموا أنهم هم، وغيرهم من السياسيين، من لا نثق بهم؟ وإذا كان الاستفتاء سؤالا، فنحن لا نخشى المسؤول، بل نخشى السائلين وحساباتهم التي يخفونها وراء شماعة العودة للشعب.
لماذا لا نثق بهم؟ وكيف نثق بهم وهم من يطالب بالخروج عن الدستور، وبعدم احترام ضماناته في مسألة بهذه الخطورة؟ كيف نثق بهم وهم من يتخفون وراء المجتمع المدني، في إطار جمعيات من قبيل صمود وغيرها، وذلك لتمرير مشاريع سياسية يراد من خلالها إعادة الديمقراطية التونسية إلى مربع المرحلة التأسيسية؟ هل أصبح تسييس المجتمع المدني المطية الجديدة لتحقيق المآرب السياسية من دون تحمل مسؤولية التعبير عنها سياسيا؟
ليس موضوع الاستفتاء ودوره في الديمقراطية بالأمر الهين. فتلك إشكالية قديمة قدم الديمقراطية نفسها. وقد طرحتها كل الديمقراطيات بلا استثناء. ولئن اختلفت الإجابات، فإنها تشترك في اعترافها بأن المسألة ليست بسيطة.
قد يوحي الاستفتاء فعلا بأنه ممارسة ديمقراطية بحكم أنه يعطي القرار للأغلبية. ولكن ألم نتفق منذ عام 2012 على أن الديمقراطية ليست حكم الأغلبية؟ ألم يكن بعض من من يطالبون اليوم بالاستفتاء إلى جانبنا حين ذكّرنا أن حكم الأغلبية هو شكل من أشكال الدكتاتورية، عبّر عنها أبو الدستور الأمريكي جامس ماديسون بطغيان الأغلبية؟
يفترض أن مثل هذه المواقف المبدئية لا يمكنها أن تتغير بتغير الرهانات. وتغيرها لا يمكن أن يمرّ من دون أن يتسبب لصاحبه في التشكيك في جدية تبنيه لحقيقة الديمقراطية. والديمقراطية تعني في الحقيقة حكما نسبيا للأغلبية في إطار ضمانات دستورية ديمقراطية.
السؤال: ما هي الضمانات التي يمكنها أن تبقى إذا كان الحاكم قادرا في أي وقت يريد على استدعاء إرادة الشعب من خلال الاستفتاء لكسرها؟ ألم يفعل بن علي ذلك حين غيّر الدستور من أجل البقاء في السلطة؟ ألا يرتكب من يقترح اليوم اللجوء إلى الاستفتاء من خارج الإجراءات الدستورية نفس الجرم؟ هل يحتاج المطالبون بالاستفتاء إلى تذكيرهم بأن تاريخ هذه الممارسة مليء بالشوائب؟ ألا يعلمون أن بعض الكونتونات السويسريا إنما تأخرت إلى ثمانينات القرن الماضي في منح حق التصويت للنساء بسبب الاستفتاء، وأن آخر استفتاء في هذا الصدد قد حصل عام 1989، ورفض حينها الناخبون منح حق التصويت للمرأة، بما اضطر المحكمة الفدرالية العليا للتدخل من أجل إبطال هذه النتيجة؟ هل نحتاج لتذكيرهم بأن جزءا كبيرا من التشريعات العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، قبل نهاية الميز العنصري في الستينات، كانت قد فرضت بالاستفتاء، وبأن تجاوزها كان عسيرا بسببه؟
سيقال هذه حجج لا تستقيم لأن الموضوع مختلف. فالسؤال المقترح هو حول طبيعة النظام السياسي، أي أن الأمر لا يتعلق بالحقوق والحريات. والسؤال: إذا قبلنا اليوم بالخروج عن الضمانات الدستورية الحالية من أجل تغيير نظام الحكم، في ظل غياب المحكمة الدستورية مثلا، فلماذا لا نقبل به مرة أخرى؟ وإذا تبنينا نظام رئاسيا، بضمانات ديمقراطية كما يدعون، فمن يضمن أن لا يلجأ الرئيس القادم أو الذي يليه إلى الاستفتاء للتقليص من تلك الضمانات؟ ما الذي نحتاجه لنفهم أن الاستفتاء سلاح يكفي أن يقع لمرة واحدة في يد قيادة غير مسؤولة أو غير ديمقراطية للقضاء على الديمقراطية نفسها؟ ومن ثم الحرص على تأطيره قانونيا ودستوريا وسياسيا، مع منعه أحيانا في بلدان كبلجيكا.
هذا على المستوى المبدئي. لا بد الآن من إضافة بعض العناصر التي تتعلق بالمستوى المضموني للاستفتاء المقترح. فموضوعه مطالبة الشعب بالاختيار ما بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني.
إن من أهم شروط الاستفتاء الديمقراطي، بعد استفاء شروطه الإجرائية طبعا، وضوح السؤال ودقة موضوعه وجلاء تبعاته. وهي شروط منعدمة في وضعية الحال. فما معنى النظام الرئاسي المقترح؟ هل المقصود به اعتماد تونس لنظام على الطريقة الأمريكية مثلا، أم على الطريقة الفرنسية؟ هل نحتاج إلى التذكير بأن تصنيف الأنظمة السياسية إنما هي ممارسة أكاديمية أساسا، وأن الحد الفاصل بين الأنظمة البرلمانية والأنظمة الرئاسية مسألة نظرية لا يمكن الحسم فيها قانونيا.
يحيلنا هذا على غياب الدقة في الموضوع. فحتى إذا اتفقنا على حدود فاصلة بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني، كيف سنحدد ما يريده الشعب من اختياره. وعلى سبيل المثال، إذا اختار الشعب نظاما رئاسيا، كما يرغب في ذلك أصحاب المقترح، ما هو حجم الصلاحيات التي لا بد من إسنادها للرئيس كي تتحقق إرادة الشعب؟ ثم ما هي الضمانات التي يعدنا بها دعاة الاستفتاء لتجنب الانحرافات إلى الرئاسوية، أو حتى إلى الدكتاتورية؟ وكيف يقترحون رسم الخط الفاصل بين الرئاسية التي يبشرون بها والرئاسوية التي يؤكدون استحالة عودتها؟
ثم ماذا عن تبعات الاستفتاء المقترح؟ ماذا سيحدث مثلا لمنصب رئيس الحكومة؟ هل سيختفي على الطريقة الأمريكية؟ أم أن الرئيس سيحظى فقط بحق اختياره و/أو.سلطة سحب الثقة منه؟ أم أن هذه الصلاحيات ستكون مشتركة بين الرئيس والبرلمان؟
إن من يطرح الاستفتاء كوسيلة لحل ما يعتبره مشكلا في النظام السياسي التونسي هو كالمستنجد من الرمضاء بالنار. هذا إذا افترضنا طبعا حسن النية والإيمان الديمقراطي. وهو شرط يبدو أنه لا يتوفر دائما مع الأسف. ففي الحقيقة، تنبع الرغبة في تغيير النظام السياسي من أمرين. أولهما الطموح الذي يحدو بعض السياسيين في الوصول إلى كرسي الرئاسة. وثانيهما رفض المبدئ الديمقراطي القائم على توازن السلط ورقابتها المتبادلة. وإذا كان الطموح للوصول إلى قرطاج مشروعا لكل السياسيين، فإن رفض التوازن بين السلط في نظام يسمح بالانتخاب المباشر للرئيس مجانب للديمقراطية. وقد يصل في بعض الأحيان إلى حد خيانتها.
إذا كانت دواليب الدولة اليوم معطلة، فإنها كذلك لأن بعض السياسيين في أعلى هرم السلطة لا يحبّون تقاسم السلطة. ومنهم من يفهم الديمقراطية على أنها مسار اختيار ينتهي بانتهاء الانتخاب.
من الطبيعي أن ينزعج أصحاب السلطة حين يصطدمون بقيود التوازن بين السلط. ولكن تلك القيود تحمي الديمقراطية، خاصة حين تكون ناشئة، أن تنحرف إلى طغيان الأغلبية. كما أنها تدفع السياسيين نحو العمل على إقناع الشركاء والخصوم بما يكرس قيمة التداول، مع ترك ما استحال إنجازه لفائدة ما يمكن إنجازه. وعلى سبيل المثال، ما الذي يمنع رئيس الجمهورية الحالي مثلا من أن يلعب دوره في قيادة الحرب ضد كورونا؟ هل هو الدستور وأقفاله التي يدعي؟ كلا. ما يمنعه هو تركيزه الحصري على المسائل المبدئية والدستورية مع تجاهل الواقع وإكراهاته. ما يمنعه أيضا خصومته مع شركائه السياسيين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة الذي كان هو قد أتى به. هي صراعات شخصنها إلى درجة تمنعه اليوم حتى من الدعوة لعقد مجلس الأمن القومي. هي صراعات ضخمها إلى درجة صار معها أصحاب الألسن الخبيثة يحمدوا الله على ما وضع الدستور من «أقفال»، وعلى ما حرم رئيس الجمهورية من صلاحيات.
ليس ثمة أي نظام سياسي مثالي. وليس ثمة أي نظام سياسي يكون أفضل من سياسييه. وأسوأ السياسيين من يبرر عجزه على الإقناع بأقفال دستورية كان يعلم وجودها حين قبل بالدستور، إما من خلال التصويت عليه أيام المجلس التأسيسي، وإما حين ترشح للمناصب السياسية على أساسه.
لا يعني هذا الكلام أنه لا يمكن تغيير الدستور. ولكنه يعني أن تغيير الدستور حالة قصوى لا ينبغي الاستهانة بها، أو حتى بمجرد طرحها. فقبل ذلك، لا بد من استنفاذ جميع محاولات الإصلاح التي تحتاجها العناصر الأخرى في منظومة الحكم. فلعل الأدنى يغنينا عن الأقصى.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115