المواطنة قيمة تتلاشى

بقلم : عبد الستار بن موسى
ليست المواطنة مصطلحا جامدا بل تجسد مفهوما حيويَا تطوَر عبر التاريخ، فاقترن في أثينا خلال الحقبة الإغريقية

بحق الإنسان المتوفرة لديه شروط معينة في المشاركة في الشأن العام بحيث ظلت صفة المواطنة مقتصرة على النخبة من الرجال.
توسع بعد ذلك مفهوم المواطنة في روما ليشمل النساء والمقيمين ليتدعم خلال الثورة الفرنسية في أوت 1789 من خلال التمكين من المشاركة في صياغة القوانين وفي تقلَد المناصب والوظائف العامة حسب القدرات.
في مرحلة لاحقة لم تعد المواطنة منحصرة في الميدان السياسي بل امتدت لتشمل الحق في المشاركة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية. هكذا تطور مفهوم المواطنة ليشمل الرجال والنساء وكافة أفراد المجتمع مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية.
يمكن تعريف المواطنة راهنا بالمشاركة الواعية والفاعلة لكل شخص دون استثناء في الأنشطة السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
لقد كان العلامة ابن خلدون سباقا في هذا المجال لما أكد بأن الإنسان مدني بالطبع وهو ما أكده بعد ذلك جان جاك روسو وعديد الفقهاء.
إن عهد الأمان الذي أصدره محمد باي في 10 سبتمبر1857 نصَ في المادة الأولى على ما يلي :» تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرمة و أموالهم المحرمة وأعرافهم المحترمة إلا بحق يوجبه نظر المجلس «. اما دستور 26 أفريل 1861 الذي صدر زمن حكم الصادق باي فإنه خصص 19 فصلا لما لأهل المملكة من حقوق وما عليهم من واجبات وقد شدد على المساواة في الحقوق والواجبات مستعملا في كلَ الفصول عبارتين بالغتي الدلالة عبارة « التونسي» للتأكيد على صفة المواطن وكذلك عبارة « على اختلاف الأديان».
أما دستور 1959 فقد أكد في الفصل السادس على مساواة كل المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات وتدعم هذا المبدأ ببعض عناصر التمييز الإيجابي من خلال الإقرار بحق المرأة في العمل ثم صدرت مجلة الأحوال الشخصية وتلتها عدة قوانين تقر حقوق المرأة وحقوق الطفل .
إن هذه القاعدة التي تضمنها الدستور والهادفة إلى تأسيس المواطنة والتربية عليها وتكريسها على امتداد 55 سنة تخللتها هزات سياسية واجتماعية تسببت في أزمات عميقة ولدت انفجار الحراك الثوري في 17 ديسمبر 2010.
لقد ساهمت المنظومة التربوية منذ بداية الاستقلال في بناء مجتمع مثقف وتكوين جيل يسعى إلى تكريس قيم المواطنة وصيانة قواعدها خاصة لدى الناشئة والشباب حتى تتحول في الممارسة إلى قناعات وثوابت. إلا أن المنظومة التربوية الرامية إلى تأسيس المواطنة شهدت تعثرا وشللا في الواقع وفي ظل نظام سياسي غير ديمقراطي لم يقم بواجباته ولم يحترم التزاماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل ساهم في التفاوت بين الفئات والجهات حيث بقى الشريط الغربي من شماله ووسطه مهمشا ومفقرا. إن عديد العوامل ساهمت في الحد من ترسيخ قيم المواطنة مسلكا ومنهجا وأهمها عجز أغلبية السياسيين الفاعلين عن مرافقة المجتمع في تطوره خاصة بعد بروز مجتمع مثقف يرنو إلى المشاركة في الشأن العام لكنه يجد الأبواب موصدة أمامه.
لقد أصبح القرار الرسمي يتسم بالنزعة الاستبدادية ويستند إلى الفوقية ويعتمد على وسائل إعلام في أغلبها مدججة و ولائية في ظاهرها بهرجة وإتقان وفي باطنها زيف وبهتان. الأمر الذي انعكس سلبا على المشروع التحديثي الرامي إلى تحقيق حياة مدنية قوامها الإيمان بالمواطنة والتشبع بالوطنية.
بعد 14جانفي 2011 سعت العديد من مكونات المجتمع المدني إلى حماية مبادئ المواطنة وتم يوم 10 أفريل 2011 الإعلان عن ميثاق المواطنة بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة والذي تضمن 16 نقطة أهمها:
- النأي بالإسلام عن كل الصراعات العقائدية والتوظيفات السياسية والإيديولوجية .
- المساواة في المواطنة وفي الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
- ضمان كافة الحقوق والحريات الفردية وضمان مكاسب المرأة وتكريس المساواة الكاملة.
- ضمان كافة الحقوق المتعلقة بحرمة الشخص وكرامته.
- ضمان حقوق العمل والصحة والتعليم والمسكن لكافة التونسيين وإقرار نظام جبائي عادل.
- الحق في التنمية العادلة بين كافة الجهات وحق الجميع في العيش في بيئة سليمة.
لقد واجه المجتمع المدني بعد ذلك صعوبات جمَة عند صياغة الدستور الجديد وناضل من أجل إقرار مواطنة كاملة دون قيد أو شرط.إذ انتظمت يوم 13 أوت 2013 مسيرة وطنية قادتها النساء ضد صيغة المرأة مكملة للرجل الواردة بالمسودة الأولى للدستور.ومن أجل دعم مكاسب المرأة وضمان المساواة الكاملة صلب الدستور الجديد. كما فرض المجتمع المدني حضوره لأشغال المجلس الوطني التأسيسي عند مناقشة النواب للفصول المثيرة للجدل والمتعلَقة ببنية المجتمع التونسي. هكذا تمكن المجتمع المدني من خلال نضاله ومن خلال الحوار الوطني من فرض رؤيته وإقرار المواطنة بمختلف أبعادها صلب دستور 2014. إلا أن مسألة المواطنة لا تختزل في دستور وقوانين تضمن الحقوق والواجبات وتضبط كيفية تسيير السلط والتداول السلمي على السلطة بل تتجسد فعليا عبر وفاء الدولة بالتزاماتها و تمتيع المواطنين بكافة حرياتهم وحقوقهم التي ضمنها الدستور. كالمساواة والتي تعتبر من أهم ركائز المواطنة. يجب أن تقترن بإلغاء كل أشكال التمييز ومنعها. أما الحريات السياسية والمدنية فيجب ضمانها من خلال الممارسة، كالحق في التنقل وفي صيانة الحرمة الجسدية والمعنوية بإلغاء مظاهر التعذيب ومحاسبة مرتكبيه ومقاومة ظاهرة الإفلات من العقاب و حماية حرية التعبير مع الإقرار بالحق في الاختلاف وتكريسه فعليا لأنه الضامن للتسامح والعيش في أمان. كما أنه لا يكفي ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في النصوص بل يجب تكريسها على أرض الواقع كالحق في التعليم وفي الصحة والعمل والعيش الكريم .
يمثل التضامن قيمة أساسية في المواطنة يتناقض كليا مع مظاهر الأنانية ويؤسس إلى النزعة الطوعية في مساعدة الغير ويؤكد الفيلسوف دوكهايم في هذا المجال بأن مبدأ التضامن ينبع من الضمير الجماعي الذي يفرض الوعي بالمصلحة الجماعية أي أن أفراد المجتمع محتاجون لبعضهم وأنهم يكملون بعضهم وبالتالي لابدَ لهم من التضامن بينهم.
هل أن مقومات المواطنة متوفرة في بلادنا ؟
إن جل الحقوق التي ضمنها الدستور بقيت حبرا على ورق وخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. فالحق في التعليم أصبح في مهب الريح بفعل تردي منظومة التعليم العمومي وتدني المستوى وعدم قدرة التلاميذ المنتمين إلى عائلات فقيرة من توفير تكاليف التعليم وخاصة أجور الدروس الخصوصية وقد أدَى هذا إلى انتشار مؤسسات التعليم الخاص والمؤسسات الأجنبية بحيث أصبحت المدرسة العمومية لا تؤمَن في الغالب تعليما يضمن الكفاءة وصارت تلفظ سنويا أعدادا هائلة من التلاميذ .
كما أن منظومة تربية النشأ على المواطنة لم يقع تحديثها منذ سنة 2011 وفقدت المدرسة في هذا المجال دورها الطلائعي. أما الحق في الصحَة الذي ضمنه الدستور فقد أصبح سرابا خلبا بفعل الوضعية الحرجة للمستشفيات العمومية من حيث تردي البنية التحتية ونقص المعدات والأدوية والإطارات الطبية وشبه الطبية التي فضَل عدد كبير منها الهجرة إلى خارج حدود الوطن.
أما الحق في العمل فقد صار حلما بل كابوسا حيث يتضخم سنويا عدد المعطلين عن العمل وخاصة من خريجي الكليات وأصحاب الشهائد العليا وحتى المتحصلين على الدكتوراه.
كيف يمكن لمعطل عن العمل عديم المورد أن يوفر أبسط مستلزمات العيش ويصون كرامته، كيف يمكنه أن يحافظ على صحته وأن يكوَن أسرة وأن يجد مسكنا، كيف يمكنه أن يمارس حقوقه المدنية والسياسية كحرية التعبير والحق في التنقل؟
أما الحقوق الثقافية والبيئية فقد أصبحت تنعى حظها بين أهلها. كيف يمكن للمواطنين المحرومين من تلك الحقوق والحريات أن يشعروا بالانتماء للوطن وأن يجسدوا روح التضامن والتآزر والتكاثف والحال أنهم أولى بذلك وإنمَا فاقد الشئ لا يعطيه .
كيف يؤمن بقواعد المواطنة ويشعر بالانتماء للوطن من يتعرض إلى سوء المعاملة من قبل أعوان الأمن ، والأحداث الأخيرة في الأحياء الشعبية أبشع صورة لذلك. أو من يعاني من المنظومة الإدارية البيروقراطية والتي تتسبب يوميا في إرهاقه وضياع وقته وإهدار حقوقه المشروعة ،كالعجز عن تنفيذ الأحكام النهائية والباتة الصادرة ضد الإدارة .إن الوضع البائس الذي تمرَ به بلادنا كبت في نفوس الشباب آفاق الحرية والمبادرة التي تؤهلهم للمشاركة بحماس في فعاليات المجتمع وفي مختلف الأنشطة السياسية و الاقتصادية والاجتماعية .
كيف يشعر بالمواطنة من أصبح غير آمن على حياته حتى في بيته مثل حادثة سوسة حيث اقتحم غرباء منزلا وروعوا ساكنيه .
كيف يشعر بالمواطنة في بلد تعطلت فيه لغة الحوار وأصبح الوضع السياسي مليئا بالمشاحنات والدسائس وفي خدمة المصالح الشخصية والحزبية على حساب مصالح العباد وأمن البلاد.
لقد أصبح هاجس الشباب نساء ورجالا الهجرة غير النظامية إلى ما وراء البحار والمخاطرة بأرواحهم عبر قوارب الموت. إن الأعداد المهولة المسجلة سنويا بالنسبة للمهاجرين خلسة أو الذين لقوا حتفهم يبرز فشل الدولة في الحفاظ على أبنائها وتوفير ظروف العيش الملائمة لغرس قيم المواطنة خلافا للدول المتقدمة مثل اليابان التي نجحت في تكوين شعب متمتع بحقوقه قائم بواجباته متشبع بروح المواطنة.
في بلادنا يزداد يوميا ضعف الوعي المجتمعي بقيم المواطنة مما يشكل تراجعا عن العصر الذي كان يعيش فيه الشاعر الوطني أبو القاسم الشابي والذي عبر عنه في أبياته الخالدة :
« أنا يـا تونـس الجمـيـلـة فـي لـج الـهـوى قــد سبــحـت أي سبـاحـه
شرعتـي حبّـكِ الـعـمـيـق وإنّــي قـــد تـذوقـت مــره و قـراحه
لا أبـالـي وإن أريـقــت دمــائـي فدمـاء العشـَاق دومـــاً مـبـاحــــــه »

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115