قضايا جامعية: خواطر حول أزمة مجلّات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة

رياض بن خليفة، أستاذ مساعد، جامعة تونس
تعتبر الدوريات العلمية فضاء لنشر نتائج البحوث العلمية وللتعبير عن هواجس الجماعة الأكاديمية وقضايا المجتمع ومشاغله وذلك بطرح مسائل

وقضايا جديدة تهم المعارف والمناهج ونقد ما تم نشره سابقا. ويسعى الباحثون من خلال نشر بحوثهم في المجلات العلمية إلى الظفر بالاعتراف بجدية عملهم ومتانة مقارباتهم المنهجية والتزامهم بالمعايير الأكاديمية الصارمة. غير أنه من البديهي أن يتفاوت مستوى المقالات المنشورة من مجلة إلى أخرى وحتى في الدورية نفسها الأمر الذي يدفعنا إلى الحديث عن كيفية عمل هيئات التحرير التي تبحث عن الاستجابة قدر الإمكان، للمعايير الأكاديمية في مناخ يفتقر إلى الإمكانيات المادية واللوجستية وحتى مجرد التنويه بالمجهودات المبذولة. فهل يمكن تحسين إشعاع المجلات العلمية التونسية في غياب استراتيجية وطنية للنهوض بها؟
يسير المجلات الأكثر جدية، في العادة مدير ورئيس تحرير وهيئة علمية وهيئة استشارية عليا. ويتضمن كل عدد جملة من المقالات تتمحور حول موضوع بعينه يرد في شكل ملف أو أعمال ندوة ومقالات مختلفة (varia) وتسعى بعض الدوريات إلى تكريس تداخل الاختصاصات، بينما يقتصر البعض الآخر على نشر بحوث تهم اختصاصا فحسب. ويبرز تخصص الدورية من خلال اسمها كما يتجلى ذلك من خلال عناوين الملفات والمقالات المنشورة. وتختلف المجلات الصادرة عن مراكز البحوث والجامعات عن نظيرتها الصادرة عن المجتمع المدني في الشكل والمضمون.
بالنسبة للمجلات الصادرة عن مراكز البحوث والجامعات يتمثل هاجسها الأساسي، في تناول مواضيع طريفة وأصيلة. أما تلك التي تنشرها جمعيات المجتمع المدني – وهي بطبيعتها لا تضع الصرامة الأكاديمية كهدف أسمى يجب تحقيقه - فإنها تسعى عموما إلى تفكيك قضايا مجتمعية عميقة أو مهمة وتعتمد تحليل السياسات وتطرح بدائل مجتمعية وسياسية. غير أنّ اختلاف أهداف هاذين النوعين من المجلات لا يجعلنا نسلّم بأن الدوريات التي تصدرها الجامعات ومراكز البحوث هي أكثر قيمة من تلك التي تنشرها منظمات المجتمع المدني. فالاستجابة للمعايير الدولية في التقييم والإخراج والتأثير (Impact Factor) تمثل نظريا المحددات العليا لقيمة مجلة ما. فبعض الجمعيات في أوروبا وأمريكا الشمالية نجحت في تحقيق توازن بين البعد الأكاديمي والمواطني.
ويطرح قياس الأثر إشكالا خاصة بالنسبة للمقالات المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية. ففي قواعد البيانات لقياس معامل التأثير ((Scopus و (Elsevier) نلاحظ غياب فهرسة أهم الدوريات الفرنسية الذائعة الصيت مثل مجلة الحوليات (Annales, Histoire, Sciences Sociales) و كراسات المتوسط (Cahiers de la Méditerranée) والمجلة الأوروبية للهجرة الدولية (Revue européenne des migrations internationales) كما نلاحظ أيضا غيابا كلّيا للمجلات التونسية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي تصدر أكثر من 95% من مقالاتها باللغتين العربية والفرنسية، عن معامل التأثير الدولية. وينطبق الأمر ذاته ينطبق على مجلات محكّمة وجديّة، يجمع الباحثون على التزامها بمعايير نشر صارمة مثل مجلتي أسطور وعمران الصادرتان عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. هذا ونشير إلى أن معامل التأثير لمجلة في سنة معينة، تمثل معدل المرات التي تم الاستشهاد فيها من الأبحاث المنشورة في تلك المجلة خلال السنتين السابقتين. ينضاف إلى ذلك أنه لا يمكن احتساب معامل التأثير إلا بعد تسجيلها في إحدى الفهارس الإلكترونية وهو أمر غير متوفر لأغلب المجلات التونسية.
هذا ويتبين لنا أن اختيار الكتابة بلغات أخرى غير الإنقليزية، يمثل عائقا أساسيا أمام فهرسة المجلات من قبل معامل التأثير وهو أمر يندرج في إطار عولمة وتنميط المعرفة حسب ثقافة المالك للنفوذ الجغراسياسي. ويفرض اعتماد معامل التأثير لتصنيف الجامعات خيارين: إما التوجه للكتابة باللغة الإنقليزية وإما التركيز على الجودة فحسب والكتابة باللغة الوطنية أو الفرنسية باعتبار انتماء البلاد التونسية للفضاء الفرنكفوني. يتمّ في الخيار الأول دعم تكوين الأساتذة الباحثين باللغة الإنجليزية فترصد ميزانية في مخابر البحث، لترجمة المقالات وتصحيحها لغويا (وهذا ما يحدث في فرنسا مثلا). وهو أمر يدعو وزارة الإشراف إلى عدم الحطّ من مكانة المنشورات الصادرة في المجلات التونسية والعربية عند تقدير منحة التحفيز على البحث حتى لا تكرس تلك النمطية التي تعتبر أن العربية ليست لغة العلوم أو أن الفرنسية قد تجاوزها الزمن، وهي التي مثلت لتونس عامل انفتاح على الثقافة الغربية. ومهما يكن من أمر، فإنّ الباحث الفاعل هو ذلك الذي لا يحصر مجال إنتاجه المعرفي في فضاء معرفي وحضاري واحد. ولا يفوتنا التنصيص على أن طبيعة الاختصاص تفرض توجها دون آخر، وهو من العوامل التي تفسر تلك النظرة التفاضلية بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الصحيحة.
ولتجاوز هذه المعضلة يمكن اعتماد تقييم وطني للمجلات العلمية يصاحبه دعم للمخابر التي تتخذ مبادرة لبعث مجلات علمية وللمعهد الوطني للتراث وللجامعات التي تتوفر على دوريات تصدر منذ عقود. ويتطلب ضمان انتظام النشر إمكانيات مادية وبشرية فضلا عن التخفيف من البيروقراطية المقيتة. ولا يمكن لمجلة أن تكتسب صيتا إلا بإشعاعها وبوجود منسوب تدفق لمقالات يقع رفض أكثر من نصفها. أمّا بالنسبة للمجلات التي تنشر باللغة العربية يمكن اعتماد معامل التأثير العربي. هذا المؤشر الإقليمي يوفر تقييما كميا ونوعيا يصنف المجلات التي تصدر باللغة العربية. وهي لعمري مسألة وطنية بالنسبة للبلدان التي تعتبر لغتها العربية إحدى مقومات هويتها الحضارية وتتمسك باعتمادها في التدريس والإدارة.
وتحدد معامل التأثير العربي (Arab impact Factor) التصنيف حسب المؤشرات التالية:
- أن يكون للمجلة رقم تصنيف دولي؛
- أن يكون للمجلة موقع إلكتروني يحتوي على جميع المعلومات؛
- أن تصدر المجلة بشكل منتظم؛
- أن تكون هيئة التحرير من الأساتذة المشهود لهم علميا؛
- أن تكون البحوث موزعة جغرافيا؛
- أن يحتوي الموقع على قواعد النشر وأخلاقيات النشر وقواعد الملكية الفكرية؛
- الالتزام بمواعيد النشر المعلنة؛
- الاهتمام بالدقة اللغوية.
ويتمثّل السّؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصّدد فيما إذا يمكن توفير هذه الشروط بالاعتماد على تطوع الأساتذة الباحثين؟ بالطبع لا. لذلك فإن سياسة النشر ودعم المجلات العلمية يجب أن تصاغ على مستوى وزارات الاشراف وبالخصوص وزارة التعليم العالي. كما تطرح مسألة عدد المجلات التي تتوفر على بوابة إلكترونية؟ العدد بالطبع هزيل! ولنأخذ على سبيل المثال مجلة «كراسات تونسية» التي تصدر منذ سنة 1953. فقد استجابت هذه الدورية في السنوات الماضية إلى أهم المعايير الدولية التي سبق ذكرها بفضل مجهودات فريقي التحرير ولكن لم يتسن نشر العددين الأخيرين نظرا «لعدم توفر الميزانية»! كما أنها على غرار الأغلبية الساحقة من الدوريات التونسية لم تتحصل على الإمكانيات اللاّزمة لبعث بوابة إلكترونية. فهذه المبادرة هي المدخل لإدراج المجلة في منصات دولية. وهو ما يفتح الباب لاعتماد رصيد المجلة في الإحالات المرجعية للمقالات المنشورة حديثا. عادة ما يكتفي الباحثون في فترة الحجر الصحي بالعمل من خلال ما يتوفر من معطيات على شبكة الانترنيت. كما أنّ المبادرة الأخيرة برقمنة الأعداد القديمة ووضعها على موقع الكلية للبيع بأثمان باهضه نسبيا لا تستجيب للتحديات التي ذكرناها آنفا.
وتعتبر مجلة «السبيل» التي يصدرها مخبر الآثار والعمارة الإسلامية (جامعة منوبة) استثناء. فقد اختار فريق التحرير منذ نشر العدد الأول في 2016 إصدار نسخة إلكترونية، ولكن تمّ ذلك بالاعتماد أساسا على تطوع فريق من الباحثين وعلى مجهود شخصي لمدير المجلة. وفي ظلّ عدم توفر آلية لوجستية ومرونة إدارية لتحقيق ظروف عمل مناسبة لهذه المجلة وغيرها فإن تواصل مواجهة الصعوبات المتعددة قد يؤدي إلى إحباط العزائم. ويمكن في هذا الشأن ذكر العديد من المجلات المهمة التي تعرف تأخرا في النشر.
بات إذا من الضروري تركيز وزارة التعليم العالي لمنصة إلكترونية جامعة للمجلات الصادرة في تونس (وهو ما حققته الجزائر مثلا) وألا تتجاوز نسبة حجب المقالات المنشورة سنة واحدة حتى يقع استعمالها في المنشورات الصادرة حديثا وضرورة تحيين المضامين والتفاعل مع منصات أخرى وقواعد بيانات معتمدة في البحث، بل ومن المهم إصدار نشريّه سنوية تعرف بالبحوث الصادرة في تونس وبالباحثين التونسيين وتجاربهم الرائدة. ومن المفيد في نفس الإطار إيجاد آليات لرفع شأن الباحثين الشبان وإدماجهم في هياكل البحث بعد الانتهاء من إعداد أطروحاتهم، فهؤلاء هم عماد المستقبل.
كما تطرح ضرورة دعم تكوين المشرفين على المجلات وتحفيزهم ماديا ومعنويا. وبما أن الدولة تشكو من صعوبات في تخصيص الاعتمادات فمن المهم فتح باب التمويل عبر بناء شراكات مع منظمات المجتمع المدني. فلا يجب أن يترفع الباحثون عن الإمكانيات البشرية واللوجستية التي يتيحها لهم المجتمع المدني لأن الهواجس المواطنية يمكن أن تؤسس لتلك الرابطة المتينة بينهما. وقد أثمر هذا الانفتاح تجارب رائدة مثل المجلة العربية لحقوق الإنسان وكذلك كراسات المنتدى الصادرة منذ ثلاثة سنوات عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ويمكن لهذه الدوريات أن تتخذ منحى أكاديمي دون الحياد عن دورها المجتمعي النضالي وذلك بعد الإستجابة شكلا ومضمونا لبعض المعايير.
ختاما يتطلب النهوض بالبحث العلمي الارتقاء بالدوريات. ولتحقيق هذا الهدف لا بد من رسم سياسة وطنية ترصد المجلات الموجودة وتضبط حاجياتها ثم تعمل على دعمها لتحقيق إشعاع مراكز البحوث والجامعات التونسية. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف بمواصلة اعتماد سياسة التطوع وعدم الاستجابة لضرورة دعم النشر الرقمي بالإضافة إلى الحد من الحريات الأكاديمية عبر المعيقات الإدارية. إنّ أزمة مجلات العلوم الإنسانية والاجتماعية هي مثال عن تردى الأوضاع اللوجستية والمادية بمراكز البحوث والجامعات التونسية. فهل يتضمن مشروع إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي حلا لهذه المعضلة؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115