من أجل القطع مع سياسة الدولة المتسولة

لقد اهتم الباحثون والدارسون وخاصة في العلوم الاجتماعية منذ عقود طويلة بظاهرة التسول لفهم أسبابها ومظاهرها وتطوراتها.

وقد قدمت لنا الدراسات السوسيولوجية عديد النتائج الهامة لفهم هذه الظاهرة بعيدا عن المواقف الأخلاقية أو السياسات الأمنية والتي تسعى إلى رفض هذه الظاهرة ونفيها من الفضاء العام.و لهذه الدراسات ولنتائجها طبعا أهمية كبيرة باعتبار أنها تمكننا من ضبط وتصور السياسات العامة للخروج من هذه الظواهر والتي تشكل اعتداء صارخا على كرامة الإنسان وعلى عزة نفسه .
• في أسباب التسول والسلوكيات
لقد أثبتت الدراسات أن ظاهرة التسول تعود إلى أسباب اقتصادية واجتماعية عميقة.فمرور الإنسان إلى موقع التسول والاستجداء ليس قرارا إراديا لعزوفه عن العمل وميله إلى الكسل والربح السريع بل على العكس فإن المرور إلى هذه الوضعية يكون في أغلب الأحيان قرار قاسيا على الشخص لما يحمله من تراجع لكرامته وإنسانيته وعزة نفسه. وبالتالي يكون المرور إلى التسول آخر الحلول للبقاء والتمسك بالحياة .
أما عن الأسباب الدفينة لهذه الظاهرة الاجتماعية ومرور الشخص إلى التسول فتعود إلى الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها ولمدة طويلة .
وقبل المرور الى هذه الوضعية أثبتت جل الدراسات أن الأشخاص يحاولون لمدة طويلة تفادي ما يعتبرونه على المستوى الاجتماعي والمبادئ المشتركة سقوطا مدويا.وقد ينجح البعض في النجاة وعدم الوقوع في «مستنقع» الشحاذة من خلال ضمان لقمة العيش ولو بصعوبة كبيرة.
وقد أثبتت الدراسات أن التسول هو ظاهرة اجتماعية لها أسبابها الهيكلية العميقة والدفينة .وهذه الأسباب تكمن في الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية التي يصبح معها الاعتماد على الطاقة الذاتية لإعادة إنتاج الإنسان لنفسه غير كاف.والمرور إلى التسول بعد معاناة طويلة هو إقرار ضمني بهذا الفشل .
فالأشخاص والعائلات يعجزون لفترة طويلة عن توفير الأدنى لتفادي الجوع والبقاء على قيد الحياة هي مما يضطرهم إلى هذه النقلة الأليمة والقاسية من الناحية النفسية وهي الاعتماد على الآخر لمحاولة توفير قوت يومهم وتفادي الفناء.
إلى جانب الأسباب العميقة لهذه الظاهرة حاولت الدراسات السيوسيولجية فهم السلوكيات التي تصاحب التسول والشحاذة.وقد أشارت هذه الدراسات إلى أن هذه الظاهرة تفتح عالما جديدا ومخيفا تختفي فيه كل قواعد وقوانين العيش المشترك ليصبح العنف والكذب والإفلات من كل التزام اجتماعي وأخلاقي قواعد جديدة .
أثبتت عديد الدراسات وأثبتت أجيال كبيرة من الباحثين أن ظاهرة التسول ظاهرة خطيرة لسببين على الأقل.السبب الأول أن هذه الظاهرة نتيجة لهشاشة اقتصادية واجتماعية كبيرة تصعب معها الحياة والعيش بالاعتماد على القوى الذاتية .أما السبب الثاني لخطورة هذه الظاهرة فيكمن في كونها وراء بروز مجموعة من السلوكيات التي تهدد وتنسف القواعد المدنية للعيش المشترك لتفتح عالما جديدا يسوده العنف وقانون الغاب .
• في مفهوم الدولة المتسولة
على حد علمنا لم يقع في السابق استعمال مفهوم «الدولة المتسولة» في البحوث أو الكتابات الاقتصادية والسياسية والسوسيولوجية .وقد أردنا استعمال هذا المفهوم للإشارة إلى خطورة بعض المسارات التي تعيشها بلادنا والتي إذا تواصلت ستكون وراء بروز تمش جديد في المجال السياسي وهو تمشي التسول والاستجداء.وإن هدفنا الأساسي من وراء هذا المقال هو القطع مع هذه المسارات والابتعاد عن هذا التمشي والعودة إلى لاعتماد على قوانا لذاتية وطاقاتنا الوطنية في الإنتاج والاستثمار والثورة .
ولتحديد محتوى هذا المفهوم الذي قدمته العلوم الاجتماعية لفهم ودراسة ظاهرة التسول على المستوى المجتمعي .
توجد مسألة أريد الوقوف عليها في تحديد هذا المفهوم هي الأسباب العميقة لهذه الظاهرة .وهنا نريد استعارة نتائج الدراسات السوسيولوجية لفهم هذه الظاهرة عند الانفراج كذلك على المستوى المجتمعي لفهم ظهور وتنامي السلوكيات القريبة من التسول والاستجداء على مستوى الدول.ولعل أول وجه شبه هي أوضاع الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمر بها البلدان والتي تدفع بهذه السلوكيات إلى لظهور لتصبح في بعض الأحيان سياسية دولة .
إن أغلب الدول وحتى الفقيرة منها تعتمد في الاستثمار والنمو وإنتاج الثروة بصفة عامة على طاقاتها وإمكانياتها الذاتية وهذه القاعدة العامة لا تعني عدم العودة إلى الآخر والعودة إلى التعاون الدولي في الديناميكية الاقتصادية حتى من قبل اكبر الدول وأغناها .فأغلب الدول تلتجئ إلى الخارج للحصول على التمويل في بعض الأحيان أو التكنولوجيا أو المواد الأولية أو عناصر أخرى من عملية الإنتاج.إلا أن المهم هو أن الجهد الذاتي هو يبقى الأهم ويظل الاعتماد عليه أولوية عند اغلب الدول حتى الفقيرة منها .
وفي رأيي فإن السلوكيات القريبة من التسول عند الدول تبرز في فترات الهشاشة والأزمات العميقة والصعبة .ففي هذه الفترات تصبح الإمكانيات الذاتية غير قادرة على الإيفاء بحاجيات الدول لتعرف توازناتها الكبرى انخراما غير مسبوق وإنتاج الثروة فيها وإنتاجياتها تراجعا كبيرا .عندها وفي ذروة هذه الأزمات المالية والسياسية والاجتماعية تبرز هذه السلوكيات ويصبح للجوء إلى الخارج للخروج من هذه الظروف العصيبة الحل الأسهل .
وتصاحب هذا التمشي الكثير من السلوكيات ومن ضمنها أخذ كل الالتزامات حتى التي لن نتمكن من تحقيقها من أجل الظفر بأي دعم من الخارج .كما يعرف هذا التمشي ظهور شعور جديد وهو غياب الحرج من الالتجاء إلى الآخر.ويصاحب هذا السلوك الكثير من الارتجال في بعض الأحيان والفوضى في ضبط الأولويات وفي التوجه للمؤسسات المعنية لدعم المجهود الوطني .
• في ظهور بعض سلوكيات الاستجداء
كما اشرنا منذ البداية فإن الهدف من هذا المقال هو الإشارة ثم جلب الانتباه إلى بعض السلوكيات التي تقترب من التسول وذلك لتفادي تراكمها الذي قد يؤدي بنا إلى السقوط في إشكالية الدولة المتسولة .وأود الإشارة إلى مجالين مهمين بدأنا نبتعد فيهما على مبدإ الاعتماد على قوانا الذاتية والاتكال على الآخر من اجل الخروج من أزماتنا المتراكمة .
المجال الأول هو المجال الصحي وبصفة خاصة في محاربة الجائحة .وقد بدأنا نشاهد تطورا كبيرا في الاعتماد على الآخر اضافة الى الاعتماد على طاقاتنا وإمكاناتنا الذاتية والوطنية في عديد المجالات .وقد لعبت هذه الإمكانات وخاصة المؤسسات الصحية والطاقم الطبي دورا أساسيا في حماية المواطنين .إلا أن عديد المجالات الأخرى عرفت اتكالا على الآخرين وعلى المؤسسات الدولية والدول الأخرى .المجال الأول يخص تمويل هذه الحرب على الفيروس بتوفير التمويلات الضرورية للمؤسسات الصحية أو لشراء التلاقيح والمعدات الطبية الأخرى كالتلاقيح والأكسيجين .
فقد تفاجأنا بالصرخات المتواصلة للإطار الطبي والمستشفيات لغياب التمويلات الضرورية لمحاربة الجائحة .وعملت الحكومة على التوجه للمؤسسات المالية العالمية من اجل تعبئة التمويلات الضرورية .
في رأينا من الضروري الاعتماد بصفة أساسية على طاقاتنا وإمكانياتنا الذاتية بالرغم من الأزمة المالية .فالمسائل المالية والتصرف في المالية العمومية يخضع الى أولويات تضعها السلطة السياسية .وتبقى محاربة الجائحة في أولى الأولويات التي يجب توفير كل الإمكانيات لإيقافها .
وقد لاحظنا نفس التمشي في الحصول على التلاقيح فعوض التوجه إلى الشراءات المباشرة من مصنعي التلاقيح خيرنا التوجه الى المؤسسات الدولية كمنظمة الصحة العالمية والتي تعطي الأولوية وككل المؤسسات الأممية إلى البلدان الأكثر فقرا .
ونجد كذلك نفس التمشي على المستوى المالي حيث كثفنا الاتصالات والتدخل لدى الدول الصديقة والشقيقة والمؤسسات الدولية وفي بعض الأحيان في ظروف صعبة من اجل الحصول على دعمها المالي .
تعيش بلادنا ظروفا وأزمات من أخطر الظروف التي عرفتها في تاريخها المعاصر وقد دفعت هذه الأوضاع الدولة في بعض الأحيان إلى التوجه إلى الخارج لمساعدتنا على تجاوز أوضاعنا الداخلية.
وقد خلقت هذه السلوكيات الكثير من الامتعاض والغضب عند فئات واسعة .وفي رأيي لابد لنا من الانتباه إلى مخاطر هذا التمشي على بلادنا والعودة إلى الفلسفة والروح لتي بنيت عليها الدولة التونسية وهي إعطاء الأولوية إلى طاقتنا وإمكاناتنا الذاتية لبناء وطننا .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115