رفيقنا المنجى اللّوز... وداعا

«سنكتب, لا شيء يثبت أنّي أحّبك غير الكتابة
أعانق فيك الذين أحبّوا
و لم يُفصحوا بعدُ عن حبهم,
أعانق فيك تفاصيل عمر
توقف في لحظة لا تشيح
سنكتب من غير قافية أو وطن
لأن الكتابة تثبت أني أحبّك»

محمود درويش
غادرنا منذ أيام مواطن أنيق أمضى حياته في خضم نضالي قاده من إلتزام إلى آخر ومن معركة إلى أخرى دون توقف ولا لحظة تردُّد .
إنه المنجي اللوز أصيل مدينة صفاقس, و سليل منظمة آفاق العامل التونسي.
تعرفت عليه - مثل أغلب من عرفت من رجالات تونس الأفذاذ – في الغرفة 17 لجناح العزل بسجن 9 أفريل 1938 بتونس, الذي تم هدمه في حركة سلطوية خبيثة و غبية, إذ كان فضاء مثاليا للذاكرة الجماعية الوطنية اختزن بين جدرانه نضالات أجيال من التونسيات - قبل أن يفردن بسجن مستقل في منوبة في العام 1968– و شهد على معاناة آلاف مؤلفة من المعتقلين غبنهم المستعمر بداية و لم ترأف بهم دولة الإستقلال بعد ذلك.
في الغرفة 17 جمّعت السلطات القضائية أكثر من عشرين مناضلا هم كل من بقي»مطلوبا للعدالة « من أصل ألف و خمسمائة إيقاف قامت بها الإدارة الفرعية لسلامة أمن الدولة إبان حركة فيفري للعام 1972 الطلابية و التلميذية, و شملت هذه الإعتقالات شبابا من التونسييّن و التونسيات من كل مناطق البلاد تقريبا أضربوا و تظاهروا و رفعوا شعارات اعتبرتها سلطات البلاد الحاكمة معادية من قبيل :
«لا مجاهد أكبر إلا الشعب»
في هذه الزنزانة قضينا معا صيفا كاملا على ذمة حاكم تحقيق متردد و بدون تجربة مع القضايا السياسية و المعتقلين السياسيين .
و كانت الزنزانة 17 تضمّ ممثلين عن الحزب الشيوعي التونسي, و عن منظمة آفاق و عن التجمع الماركسي الللينيني التونسي, و عن حزب البعث كانت إقامتنا في هذه الغرفة سعيدة طبيعة أننا - و بعد تجربة 1968 إلى 1970 بالنسبة للبعض منا- إنخرطنا في علاقات نضالية إنسانية تألقت فيها المجموعات اليسارية التي نالها الاعتقال من 1968 إلى 1980 حيث كانت الخلافات السياسية و العقائدية غير مُحدِّدة في علاقاتنا اليومية داخل فضاءات الإعتقال بأي شكل من الأشكال فكنا إزاء إدارة السجن وأعوانها متضامنين إلى أقصى الدرجات, وعلاقاتنا داخل الغرفة جدّ مُتألفة نجتمع على ظروف إعتقالتنا لننهض بعناصرها حتى نُكسّر ضمنها مكونات إرادة تحطيم معنوياتنا والنيل من ثباتنا, فكانت عناصر الفرحة حاضرة عبر الضحك من كلّ شيء , وعبر تبادل الحكايات حول منشىء كلّ واحد مّنا تعريفا و تقديما .
و كان تنظيم حياتنا اليومية يأخذ منا حيزا من نهارنا لتنظيف الغرفة و ترتيب المأكل و غسل الأواني و تحديد أولويات إستهلاكنا حتى لا نُعدم المستقبل.
وكانت لنا, و مع المنجى اللوز بالذات حصص الحفلات الغنائية, حيث كنا نحبّ سويا أغاني المبدعة فيروز, نغنيها شماتة في حرماننا من كل أدوات المغنى إلى أن تمكننا سرّا من بُلوغ تهريب راديو صغير, كان أداتنا لمواكبة أخبار البلاد الرسمية و بعض من أخبار العالم.
كان المنجى اللوز حاذقا في تقليد أنور السادات في أحد خطبه, فكنا نطالبه بإتحافنا بهذه الحصة فنضحك ونضحك معا .
وكان الرجل ودودا بشوشا ضحكته لا تكاد تغادر شفتيه, كما كان خدوما يتطوع لكل المُهمات الاعتقالية المتداولة وقتها.
و مع أحمد كرعود و مرشد الشابي, و مصطفى بن ترجم و المرحوم الهاشمي الطرودي كانت الحلقة طريفة و مبدعة لاسيما في بحث عناصرها على كل مسالك الحصول على الممنوعات من جرائد ومجلات و بطاريّات للرّاديو المهّرب.
كما أن خططنا كانت تطال التحايل على الحراس لمعرفة نُتف مما يجري داخل الجناح من تغيرات, إذ لا يكاد يمر يوم دون أن تطرأ تطورات جديدة فيستقبل الجناح زوارا جُدُدا, و يتخلى عن بعض ساكنيه بالسراح أو بالإعدام...
وبعد إطلاق سراحنا مؤقتا التقيت بالمنجى في إطار احد هياكل التنظيم للتفكير في إشكالية إعادة التنظيم بضرورة إيجاد صيغة تحمي التنظيم من السقوط لدى كل عملية قمعية كما حدث في 1968, تثبيتا لما جسدناه كلنا خلال آيقافات 1972 حيث لم تتمكن الإدارة الفرعية لسلامة أمن االدولة من وضع يدها على كل هياكل التنظيمات التي شملها القمع.
وخضنا نقاشات مُطولة صحبة آخرين من بينهم أحمد كرعود و رؤوف العيادي تلاقينا في جانب منها و اختلفنا في أخرى.
ولم تمهلنا كثيرا العملية القمعية الجماعية الثالثة, آذ إنطلقت يشائرها منذ أكتوبر 1973 و تواصلت على إمتداد أكثر من شهر لتُفضي إلى المحاكمة عدد 5 أمام محكمةأمن الدولة التي انطلقت أشغالها في أوت 1974.
ولئن شملتني هذه القضية, صحبة أكثرَ من مائتين من المناضلين و المناضلات فأنها لم تطلني إلا بالغياب, حيث مارستُ فيما يخصني قناعتي التي أختلفت فيها مع الرفاق حول الوجه السري لقطع الخيوط على القائمين على الأبحاث. في حين أعتقل المنجى و بقية الرفاق...
والتقيت بالمنجى و بأحمد كرعود و ببقية الرفاق في معتقل برج الرومي بعد رحلة طويلة قادتني للسرية ثم للإيقاف يوم الخميس 20 مارس 1975 ثم لسجن القصرين حيث قضيت سنة من نوفمبر1975 إلى 24 أكتوبر 1976.
وإلتقينا من جديد في البرج لسنوات طويلة, مارسنا خلالها في فضاء غير مُعدٍّ لذلك قناعتنا كاملة لقضاء محكوميتنا في ألطف الصيغ الإنسانية والحقوقية الممكنة مُكسرين بذلك وعبر تجندنا النضالي المشترك كلّ إرادة لتجهيلنا و قطعنا عن عالم «الأحرار» و إضعاف معنوياتنا وعزلنا وإذلالنا.
وليس سرّا الاعتراف بأننا نجحنا و إلى حدٍ بعيد في مشروعنا, ولم نحرم أنفسنا من ممارسة حقوقنا الإنسانية, والثقافية ومن بعض الكماليات ما إستطعنا إليها سبيلا عن طريق مراوغة « القوانين» و الأعراف السجنية والأوامر المسقطة من َعَل ...
وكان المنجى اللوز في كل هذا هادئا رصينا يرنو إلى تدقيق المفاهيم, يستفيد من تجارب وتكوين الأكبر منه تجربة في صمت المثابر العارف بأن عُدة الأيّام الآتية ثبات على المبدأ و فهم للمتغيرات و تملُك للآليات والمنطلقات .
وأطلق سراح المنجى بعد أن قضىّ محكوميته وإلتقيته مجدّدا في رحاب مقرّ جريدة الموقف و الحزب الأشتراكي التقدمي حيث كنت أتقدم أسبوعيا لمدّ المنجي أو رشيد خشانة أو أحد كُتاب التحرير بمقالي الأسبوعي, فكنا نتبادل الرأي و التقدير للوضع العام ولتطوراته بذات تلك الروح الأنيقة الهادئة والضحكة لا تغيب عن وجهه المشبع بالأمل والجديّة .
و لا تغيب عن لقائتنا بعض الدعابة عن تلك الأيام التي قضيناها سويا في معتقلي تونس و برج الرومي على مرحلتين تاريخيتين ضمن نضال خاضته أجيال متواترة في أنفة ونخوة رغم الغبن والظّلم و إرادة التهشيم.
وظل المنجى اللوز المرابط الثابت في مقر الحزب والجريدة يواكب كل المعارك الوطنية و الديموقراطية متفرغا بالكامل للعمل الحزبي والدعائي بدون كلل ولا ملل حتى إخطفته المنيّة و هو في عز» العطاء والبذل.
ولعله كان الوحيد من ضمن جيل مناضلي الحركة اليسارية الذي اختار أن يهب كل حياته لكل قناعاته و أن يعيش عليها و لها مطلقا و متناغما مع ذاته محافظا على هدوؤه و عُمق تجربته و مستمدًا من قوّة تكوينه شحنا فكريا وأخلاقيا أصيلا مكّنه من أن يكون جسرا نضاليا بين أجيال المناضلات والمناضلين وشوكة قاسية في حلق الإستبداد والإلتفاف على الحقوق والحريات جميعها.
وبهذه المعاني فقد كان المنجى اللوز فاعلا وطنيا أصيلا و مُدافعا ثابتا عن الديموقراطية والحرية و مخلصا وفيا لمصالح الفئات الاجتماعية الواسعة المتضررة من الإختيارات الاقتصادية والاجتماعية الفئوية.
واستحق من ثمة عن جدارة وسام النضال و مناصرة للقضايا العادلة بلا هوادة و لا كلل .
وسيظل المنجى اللّوز في سجل الأخيار من ابناء تونس الذين لم يترددوا لتلبية نداء الواجب الوطني أيّا كانت كُلفته و التبعات و الأعباء.
وستحفظ له الذاكرة الوطنية الجماعية, مثل من سبقه من الأخيار, و هم كُثر ,أنه لم يتردد و لم يرتجف ولم يُحكِّم في حياته إلا الإعتبارات الجماعية والجامعة والمنفتحة على المستقبل الجماعي وعلى المدى الواسع وعلى الغدّ الرحب وعلى الأمل الذي لا تطاله الموت إطلاقا.
«وقال إذا متُ قبلك أوصيك بالمستحيل!
سألت هل المستحيل بعيد ؟
فقال على بُعد جيل
سألت وإن مت قبلك؟
قال أُعزي جبال الجليل»
محمود درويش
فسلام , كُل السلام الأنيق على روحه الكبيرة على قدر كِبر عطاءاته النضالية الوازنة....

بقلم: محمد الصالح فليس

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115