ويعتقد الكثيرون أن هذا السؤال يعود إلى عنوان الكتاب الذي أصدره المناضل فلاديمير بينين سنة 1902 للحديث عن الوضع السياسي في تلك السنوات في روسيا تحت حكم نيكولاي الثاني.إلا أن القليلين يعلمون أن أول من استعمل هذا العنوان هو الروائي الروسي نيكولاي تشيرنيشيفسكي من القرن التاسع عشر والذي اختاره كعنوان لإحدى رواياته المهمة .ومنذ ذلك الوقت أخذ هذا السؤال أهمية كبرى في النقاشات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خاصة في فترات الأزمات وعندما تكون الرياح عاتية والأمواج صاخبة.
ونطرح هذا السؤال في ظل الأزمة المالية الخانقة التي تعيشها بلادنا منذ أشهر والتي تهدد بانهيار المالية العمومية ودفع بلادنا نحو السيناريو اللبناني .
كما يأتي هذا السؤال إثر الزيارة التي قام بها وفد حكومي رفيع المستوى إلى واشنطن حيث التقى مع عديد المسؤولين في المؤسسات المالية وبصفة خاصة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وبعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية .ويبدو من خلال التصريحات الأولية أن هذه الزيارة - ولئن ساهمت في انطلاق النقاشات بين هذه المؤسسات وفي بلادنا وأعطت نقطة الانطلاق لمفاوضات من اجل اتفاق تعاون جديد - لم تأت بالجديد من الناحية المالية كما اشرنا إلى ذلك في عديد المناسبات باعتبار طول هذه المفاوضات وصعوبتها .
إذن اثر هذه الزيارة ظلت الأزمة المالية على حدتها وخطورتها ليبقى سؤال ما العمل ؟ قائما وأكثر حدة في الأسابيع والأشهر القادمة .فما الذي يمكننا القيام به من اجل تفادي انهيار المالية العمومية في ظل تأخر الدعم المالي العالمي ؟ ما الخطوات التي يجب علينا القيام بها من اجل حماية الدولة ومصداقيتها في هذه الظروف ؟
سنحاول في هذه الورقة تقديم بعض الأفكار حول الأولويات التي يجب القيام بها في الأيام والأسابيع القادمة من أجل حماية المالية العمومية من الانهيار والابتعاد عن شبح السيناريو اللبناني .وتأتي هذه المقترحات في برنامج قصير ومتوسط المدى من سبع نقاط .
• النقطة الأولى : تامين المالية العمومية وحمايتها من الانهيار
تشكل هذه النقطة أولى أولويات مؤسسات الدولة في الأسابيع القادمة والتي لابد من إنجازها وتحقيقها لتفادي الأسوإ والأخطر في تاريخ الدولة التونسية .وهذه المهمة - تبدو اليوم -أساسية لإعادة بناء الثقة في الدولة التونسية من طرف مواطنيها ومن شركائها على المستوى العالمي .
وتبدو هذه المهمة صعبة ومعقدة نظرا للالتزامات المالية الضخمة للدولة في الأسابيع القادمة من جهة والاحتمال الكبير لتأخر دعم المؤسسات المالية العالمية وارتباطها بوصولنا إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي .
ويعود إنجاح هذه المهمة إلى مؤسسات الدولة وبصفة خاصة الى الحكومة ووزارة المالية والبنك المركزي من اجل تامين المالية العمومية .وهذا يتطلب برمجة دقيقة لجملة التدفقات المالية للدولة للحلول التي يجب إيجادها لتغطية حاجيات الدولة وتحديد مصاريفها.
ويجب على مؤسسات الدولة دراسة إمكانيات تعبئة هذه المصاريف داخليا من خلال اللجوء إلى السوق الداخلية والبنوك الداخلية ومؤسسات التمويل ،كذلك إلى البنك المركزي في تمويل مباشر للميزانية وفي حدود معينة لتفادي انفلات التضخم .كما يمكن اللجوء إلى أصدقائنا وشركائنا على المستوى العالمي لكسب دعمهم ولو مؤقتا لمواجهة الالتزامات القادمة .
وتبقى هذه المهمة أساسية ولابد لها أن تصبح الشعار المركزي لمؤسسات الدولة والذي لا يعلو عليه أي صوت من اجل حماية المالية العمومية من الانهيار ونجاة بلادنا من السيناريو اللبناني .
• النقطة الثانية: الانطلاق في الحوار الوطني في أقرب الآجال
إن أزمة المالية العمومية على خطورتها وحدتها ليست إلا انعكاسات لأزمات أعمق وأشمل تهز أركان المجتمع اثر انفلات حبات العقد الاجتماعي .وهذه الأزمات تهم الجانب السياسي والصعوبات التي يواجهها النظام السياسي الجديد والذي أتى مع دستور 2014 لتركيز حياة ديمقراطية عادية قادرة على تحقيق التوافقات الضرورية من أجل إدارة الشأن العام .ولا تقف انعكاسات هذا العجز الديمقراطي على الشأن السياسي بل تمس كذلك الجوانب الاقتصادية حيث أصبحت قدرة مختلف الحكومات المتعاقبة على صياغة رؤيا اقتصادية جامعة ونمط تنمية جديد مشلولة .
ولا تقف الأزمة الاقتصادية عند أزمة المالية العمومية فقط بل هي نتاج أعمق لالتقاء ثلاث أزمات كبرى : الأزمة الهيكلية لنمط التنمية منذ بداية الألفية ،وأزمة التوازنات المالية الكبرى للدولة والتي انطلقت مع الثورة والأزمة الثالثة تعود إلى الانعكاسات الاقتصادية لجائحة الكورونا .وهذه الأزمات تتطلب بناء تصور جديد للتنمية والنمو في بلادنا .
إن عمق هذه الأزمات وحدّتها تشير إلى ضرورة إعادة النظر في الجامع المشترك وبناء عقد اجتماعي جديد ديمقراطي ،عادل ومستديم.وهذه المهمة تتطلب مشاركة واسعة للأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية ومؤسسات الدولة من أجل صياغة مشروع عيش مشترك جديد وعقد اجتماعي للسنوات القادمة .وتشكل مبادرة الحوار الوطني التي دعا اليها الاتحاد العام التونسي للشغل مع العديد من المنظمات الأخرى وتحت إشراف رئيس الدولة إطارا جامعا لهذا المسار .
• النقطة الثالثة: سن قانون مالية تعديلي
ستفسح هذه اللقاءات والحوارات والتوافقات المجال لصياغة قانون مالية تلتقي حوله كل القوى السياسية والاجتماعية .وصياغة هذا القانون ليست عملية تقنية فقط بل هي كذلك عملية ومسار سياسي باعتبارها أنها تشير إلى الاختيارات والتوجهات الكبرى التي ستعتمدها الحكومة من اجل إيقاف الانخرام الكبير للمالية العمومية والانطلاق في عملية البناء .
وصياغة هذا القانون والموافقة عليه من طرف البرلمان من شأنها أن تضفي الشروط السياسية لتطبيق أهم القرارات الحكومية في مجال إصلاح المالية العمومية وعديد المجالات الأخرى .
• النقطة الرابعة: ضبط برنامج دفع اقتصادي (relance économique )
لا يمكن للإنقاذ الاقتصادي أن يتوقف على التثبيت(stabilisation ) وحماية التوازنات الاقتصادية الكبرى على أهميتها .ولعل من المسائل التي ساهمت في تدهور الوضع الاقتصادي في بلادنا في السنوات الأخيرة اختزال السياسات الاقتصادية - تحت ضغط المؤسسات الدولية - في التثبيت الاقتصادي وغياب برنامج دفع اقتصادي واضح المعالم وجريء.
ولابد في رأيي من ضبط برنامج دفع هدفه تنشيط الاستثمار ودفع النمو .وقد أشارت عديد التجارب المقارنة في البلدان الأخرى إلى أن التثبيت الاقتصادي وحماية التوازنات المالية الكبرى تكون أسهل في وضع ارتفاع الاستثمار والنمو .
• النقطة الخامسة: التسريع
في الإصلاحات الاقتصادية
تبقى الإصلاحات الاقتصادية أولوية كبرى يجب علينا التسريع في وتيرتها .ولكن لابد لنا من اخذ الدروس من أسباب فشلنا في القيام بهاته الإصلاحات وإنجازها مما أبقاها حبرا على ورق .وقد ساهم هذا التأخير في صعوبة العلاقات بين بلادنا والمؤسسات المالية العالمية وجموع المانحين .
ومن أهم القضايا التي نجابهها في هذا المجال في رأيي هيمنة الرؤيا الإيديولوجية للمؤسسات الدولية في قيادة الإصلاحات والتي تشكل خطرا اجتماعيا كبيرا في تطبيقها ويمكن أن تقود إلى ثورات كبرى وانتفاضات اجتماعية .
كما عجزت بلادنا عن صياغة نظرة واقعية وبراقماتية لهذه الإصلاحات في جميع المجالات .
وهنا لابد من دعوة خبرائها ومؤسسات التفكير والاستشراف لإيجاد الحلول والتصورات الجديدة والواقعية في هذا المجال .
• النقطة السادسة: مواصلة المفاوضات مع المؤسسات الدولية
لقد انطلقت بلادنا في المفاوضات مع صندوق النقد والتي ستمهد الى المفاوضات مع المؤسسات المالية الأخرى والبلدان الداعمة لنا .لكن السؤال ليس في انجاز الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي من عدمه .بل يكمن كل التساؤل في الأرضية أو محتوى هذا الاتفاق ومدى قدرتنا على تطبيق أهم بنوده في أرض الواقع .
وهذا يتطلب دعما كبيرا لقدرتنا التفاوضية على المستوى التقني والديبلوماسي والسياسي.فوجود جبهة سياسية واجتماعية صلبة وحشد ديبلوماسي مع مقترحات تقنية جدية سيدعم موقف الحكومة في هذه المفاوضات .
• النقطة السابعة: من اجل نظرة جديدة لمسألة المديونية
لقد هيمنت في بلادنا نظرة تعتبر أن احترام التزاماتنا تجاه دائنينا مسألة مركزية لا يمكن التراجع عنها .إلا أن بلادنا دخلت في مرحلة عدم قدرتنا على احترام الدين أو ما نسميه non soutenabilité de la dette .وهذا يتطلب تغييرا جوهريا في مسألة إدارة الدين ودرس إمكانيات التخفيف في عبء الدين بطريقة جدية لكن في تعاون وتناغم مع المؤسسات الدولية ومع البلدان المانحة.
تعيش بلادنا وضعا ماليا وأزمة اقتصادية لم نعرف لها مثيلا لتشكل تهديدا مباشرا للدولة وتنذرها بانهيار المالية العمومية .وهذا الوضع إلى جانب الحلول التقنية،يتطلب موقفا سياسيا من قبل الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية لحماية الدولة ومؤسساتها وفتح آفاق جديدة لتجربتنا التاريخية.