في الهــويــة والإنتمــاء

بقلم: عز الدين الفرجاني أستاذ تعليم عالي
سؤال مهم يطرحه الفرد على نفسه: «من أنا؟» وللإجابة التّي «يختارها» الفرد لهذا السؤال أهمّية قصوى فالهوية

تطرح مسألة الأنا في التفاعل مع الآخر الذي نتقاسم معه تاريخا وقربا وتآزرا ورموزا ومصالح ومشاريع.
الفلاسفة اهتموا بالموضوع وكذلك السياسيون وبصفة عامة كل المفكرين والمبدعين تناولوا الموضوع وأتى كل برؤى وتصّورات
سؤال آخر: مالفائدة في طرح هذا السؤال وهل هناك هوية أم هويات، إنتماء أم انتماءات؟
بورقيبة قدم منذ فجر الإستقلال طرحا مهما للإنتماء إذ تحدث عن «أمّة تونسية» ونحن نعلم أن اخرين طرحوا أطروحات مغايرة تماما أهمها الإنتماء العرقي إلى (الآمّة العربية) والإنتماء الدّيني (الأمة الإسلامية) ويقال أن بورقيبة مضى قدما حتى اقترح تغيير اسم البلاد من تونس إلى قرطاج.
المفكرون الألمان: نيتشة وقبله أبوه الرّوحي شوب نهاور وكذلك كانت أيضا طرحوا قضيّة الإنتماء والإنعتاق نحو إنتماء رفيع وأسمى إنتماء يتخلص من كلّ الانتماءات حتّى يحقق حرية الذّات والإنعتاق نحو إنسان «فوق الإنسان» يقطع مع كلّ قيود الإنتماء :هتلر لم يفهم هذا وكذلك منظّره رموز نبرق الذين فهموا عكس ما اقترحه هؤلاء المفكرون وراحو يلوّحون بالعنف والكراهية نحو الآخر المختلف (اليهودي و الشيوعي والأسود...) وتحمسّوا لأفضلية عرقية للجنس الآري وكلّف هذا الجنون الجماعي 50مليون من البشر الّذين سحقوا خلال الحرب العالمية الثانية وبقى إلى اليوم الإحساس بالذّنب ساري لدى كل الألمان. ذاك أيضا طرح للهويّة.
ومن ناحية أخرى أسس ميشال عفلق ومفكرّون آخرون لهويّة قوميّة عربيّة أساسها وحدة اللّغة والتاريخ وعمت أحزاب البعث كثيرا من البلدان «العربية» ووقع حتى تكوين دولة لم تدم جمعت البعث بالناصريّة التي هي ليست بالبعيدة عن هذا التصوّر. ولنقل أن جانبا هاما من هواة النظريّة كان يطمح إلى وقوف الشعوب العربية ضد الهيمنة الأوربية والتسلط على الشعب الفلسطيني ومحاولة لخلق ثقة في الإنتماء وشعورا بالإعتزاز بالإنتماء للمضي نحو البناء لوحدة الدّولة رجوعا الى المذهب والعرق. وقد فشلت التجربة أيّما فشل إذ جنّدت قوى عدّة لإفشال المشروع .
ينساق هذا الكلام أيضا إلى الهويّة العالمية للمعدمين التي حلم ماركس وانقلز ومن بعدهم الملايين من المنضّرين لها, إذ تؤسس لعالم جديد ينعتق فيه المعدم ويحرّر بتحرّره المجتمع بأسره، وقد اتضحت سريعا طوبوية هذا الطّرح إذ لم تتحقق أبدا حلم كهذا بل سادت المجتمعات الشيوعية فئة من المتطفلين الجشعين (لقبوا بالنومنكلاتورة) مارسوا خطابا «ماركسيا» وحكموا على المجتمع بأسره بالفقر والسجن واستأثروا هم وعائلاتهم بالثورة والغناء الفاحش والمجون والجنون الفكري.
من نحن إذا؟ إنّ الإجابة على السؤال لا يمكن أن تكون بريئة بل هي جزء من أسئلة هامّة: ماذا نريد أن نكون؟ كيف نكون حتى يكتب لنا مكان مع شعوب العالم اليوم؟ ماهو سلاحنا؟ ماهو موقفنا من الآخر وكيف نتعامل معه؟ كيف نؤسس لإنتماء متصالح مع الذّات ومع التاريخ ومع الآخر؟
إنّ الإنتماء لا يكون إلاّ بتبني تواريخنا ككل: الجذور التاريخية القديمة وكلّ المظاهر والثقافات والإنتماءات التي مر به بلدنا، بحيث لا نحن نخجل من الحاضر ولا نحن نطمس الجذور الامازيغية وإيتاءات حنبعل وسانت أو قوستين وماقون وكلّ الإيتاءات التي لعبت أدوارا أساسية في تكوين الشخصية التونسية.
هناك عنصر ثان يتمثل في التفتح على الحظارات القريبة والبعيدة والإتياءات الفكرية والمعرفية والثقافية والعلمية والفلسفية الأخرى: إنما ذاك ضرورة حياتية حتّى «تتزوج» العصر ونواكب الرّقي (بل نعيشه) ونخلق لأنفسنا مكانة محترمة ولائقة بين سائر شعوب العالم.
فإذا تناولنا قضية «الإرهاب» التي هي قضية معاصرة بالأساس وإذا تناولناها من وجهة فكر الإنتماء اتضح جليا ان الإرهاب إنما هو إجابة غير منطقية ولا معقولة على التساؤل عن الإنتماء والسؤال من أنا. فبقدر ما يكون الفكر منغلقا وبقدر ما يكون الذّكاء محدودا وبقدر ما تكون الثقافة والإطلاع ضحلا وسطحيّا يكون اللجوء إلى العنف الشديد ضد الآخر بحيث يعجز الإرهابي عن قبول الحقيقة المرة في التخلف والفقر في حين يقول معتقدوه أنه «خير أمّة أخرجت للنّاس» .
والقضية قضية شاملة و الشعور بالقبلية والعائلة والنسب ومحبة فريق كرة القدم يقوى لدى الضعيف والمعدم ،الفقير ماديا وروحيا فيلجأ إلى رموز انتماء وهمية أو واهية او ضعيفة يستمد منها قوة وموقعا حتى يقبل تفاهته ووهنه وتكون إجابته أمام الواقع المعاش عنفا معنويا أو مادّيا. فهو يسب فريق كرة القدم الآخر أو يفجر نفسه أو يصعد طائرة لكي يدمر رموز الرّخاء الأمريكي و هو مقتنع تمام القناعة بأن هؤلاء إنّما يمثلون الشيطان الرجيم.
ونفهم جليا من هنا أنّ هؤلاء الّذين يرفضون بربرية تونس وقرطاجيتها وكل تاريخها الضارب في التنّوع والإثراء إنما هم يعملون مباشرة وبطريقة آلية إلى زرع هذه البلاهة وهذا الجهلوت وهذا الجنون... هذا وعدهم للمعدمين أمّا هم وأبناؤهم وأحفادهم فلهم الميليارات وملذات السلطة .
وإن نحن تناولنا قضية «الحرقة» لدى الشباب وسلّطنا عليها مسألة الهويّة والإنتماء. فإنما هؤلاء اليائسين والمحبطين لعلى ذكاء أعلى من الملتجئ إلى الإرهاب. فهم لم يقبلوا بخرافة للإنتماء الأفضل وهم فهموا أنّ لا خلاص لهم إلا في الشجاعة والإختيار الفردي ونفضوا عقولهم وأياديهم من إمكانية الخلاص الجماعي. فرموا بأنفسهم إلى البحر طامعين في معجزة الفوز بالوصول إلى ضفة أخرى فيها يحترم الإنسان وفيها بحبوحة العيش وفيها العمل وفيها الكرامة وبكلمة فيها الحلم بالحرية (أن يدخّن سيجارة خلال شهر رمضان أمام الملإ مثلا!!) والحريّة في ان يضاجع تلك الشقراء ذات العيون الزرق في الحقيقة لا في الخيال اللّذي يتصوّره الإرهابي بعد الممات داخل فراديس الجنة الموعودة!!
هذا جنون من نوع آخر لأن القطع التام كما الإبماان الأعمى بالإنتماء يؤدي إلى نفس النتيجة: الفشل.
الأذكياء بين الشباب درسوا ونموا مواهب ومهارات وبراعات واستعملوا الطرق الرّسميّة فسرقهم الغرب من بيوتهم ووفر لهم بحبوحة العيش ورحب بهم. هؤلاء فهموا. ووجب عليهم أن يستغلوا ذكاءهم بعد إشباع الحاجيات الأساسية في تقديم السند والوفاء إلى الوطن إما بالعودة في يوم ما وإمّا بتقديم كل شكل من أشكال العمل والإفادة والإعانة للوطن وأهل الوطن.
دراسة الهوية تكون منقوصة إذا توقفنا عند هذا الحدّ من التحليل وإذا نحن لم نحاول إضاءة مسألة الإنتماء على ضوء المعرفة الصحيحة وما أنبتة العلم المعاصر.
إنما نعلم اليوم أنّ لا معنى «لدم راق» أو «دم فاسد» ,هذا ما قالته النّازية. وانّ التركيبة الكيماوية للدّم واحدة بني البشر وحتى مع جل أنواع الحيوان. أمّا التركيبة الأولى الأساسية للإنسان فهو ابن الواقف ( erectus) وإبن البارع (Halilis) وقد تطلب ذلك 60مليون سنة من التأقلم بالتطوّر والتطوّر للتأقلم حتّى نبلغ هذه المرحلة المتقدمة للمفكر (sapiens). ومن ناحية الكيمياء تجمع المادّة العضوية التي أساسها الكربون كل كائن حي وفي هذا يتقاسم الإنسان إنتماء وهوية أخوية عميقة مع الأشجار والحيوان بل أكثر من ذالك فالإنسان يتقاسم إنتماءا (أخويّاّ) مع الصخر والحجر بما أننّا نتكوّن بالأساس من الكترون وبروتون ونوترون
إنتماؤنا إذن كوني تذبل الإنتماءات الصغيرة التي يتحمس لها البسطاء إلى حدّ الجنون ويستعملها ذوي السلطة لسلب القطيع من حقّه في الرفاهية والإنسانية,أولاءك أيضا مجانين (أومجررمون!!).
أمّا مواصلة لإجابة النّازي والعنصري وأعداء التنوع والإختلاف فالبشر في أصله إفريقي كلنّا سود في جذورنا وقد إتخذت البشرة لون الرّمادي الوردي أو الصفرة أو الحمرة تأقلما مع المناخ وكذلك أيضا سواد الشعر أواصفراره ولون العين أزرق أو أخضر أم اسود, كل هذا تأقلم مع المناخ وتنوع وجمال متساوي.
بقي أن نقول أنّ الهوية التي يفرضها العصر هوية كونيّة إنسانيّة متخلقة تمد اليد إلى الآخر وتبني معه وتزرع الثقة والفخر بالإنتماء المكاني والتاريخي وتعمل في تربية النشء على الإنفتاح وإحترام الذّات واحترام الآخر والإيمان بالقدرة الخارقة للعمل والبذل والعطاء من أجل تحقيق الذّات ونيل الكرامة والنهل من المعارف والثقافة والعلم ونبذ العنف والتقيد بالقانون (الذي هو رمز ميثاقنا الإجتماعي) والأخذ بيد المستضعف والدّفاع عن الحقّ...
كلّ هذه صور من صور الإنتماء في العهد المعاصر: هكذا تتحقّق الذات وتتصالح مع الإنتماء وتنطلق في البناء المشترك من اجل حاضر أجمل ومستقبل أرقى.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115