قضايا جامعية: «شبكة المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية ومشاريع الإصلاح»

بقلم: الناصر بن عامر
أستاذ تكنولوجي
المعهد العالي للدراسات التكنولوجية بسوسة
تعيش السّاحة الجامعيّة نقاشا ثريّا حول مشروع إصلاح التعليم العالي والبحث العلميّ تتخلّله تباينات حول الأولويّات والمضامين المقترحة.

ومن جملة هذه التباينات ما يخصّ التّحديّات التي تواجه شبكة المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية وموقعها ضمن مشروع الاصلاح.
1- شبكة المعاهد العليا للدّراسات التكنولوجيّة: ضرورة استراتيجية تنمويّة أم حاجة ظرفيّة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من استعراض أهم المقاربات للتعليم العالي ودوره فيما يخص الاختصاصات التكنولوجية.
المقاربة الأولى، تعتبر أنّ الرّياضيات والفيزياء أساس العلوم والتكنولوجيا وأنّ التحكم في التكنولوجيا يمرّ حتما عبر إتقان الرياضيات وأنّ استيعاب التكنولوجيا لا يتطلّب تكوينا أكاديميّا خاصّا، بل يمكن الاقتصار على تربّصات صناعيّة للمتفوّقين في الرياضيات والفيزياء لمدّة زمنيّة معيّنة يصبح بعدها المتخرّج قادرا على استيعابها، ومن هنا جاءت فكرة بعث المدارس التحضيرية للمهندسين والمعاهد العليا للعلوم التّطبيقيّة والتكنولوجيا.
أمّا المقاربة الثانية، فترى أنّ التكنولوجيا تقدّمت بشكل كبير وأنّ الأنظمة الصناعيّة أصبحت معقّدة ولم يعد بمقدور حامل الرياضيّات والفيزياء فقط أن يستوعبها فضلا عن تطويرها، إذ أصبح البون شاسعا بين الفروع والأصول، كالبون مثلا بين الإعلاميّة والأنظمة الصّناعيّة كفروع والرّياضيّات والفيزياء كأصول، فأصبحت التكنولوجيا علما قائما بذاته يتطلّب الوُلوج إليه جملة من الأدوات والمكتسبات المُسبقة لاستيعابه وتطويره، وعلى هذا الأساس جاءت فكرة تأسيس المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية وبعث سلك الجامعيين التكنولوجيين بموجب القانون عدد 50 لسنة 1992 المؤرخ في 18 ماي 1992 والذين يقع انتدابهم (برتبهم الثلاثة : تكنولوجي- محاضر تكنولوجي- أستاذ تكنولوجي) وفق المعايير الجامعية من طرف لجان انتداب يشرف عليها الأساتذة الباحثون. وأسندت النصوص القانونية إلى هذا السّلك مهام ثلاث:
المهمة الأولى: هي التكوين وذلك من أجل تأمين حاجيّات المؤسّسات الصّناعية من الإطارات المتوسطة عالية الكفاءة،
المهمة الثانية: هي البحث التطبيقي الذي يطوّر منظومات الانتاج ويؤمّن تجديد المنتوجات الصناعية والخدماتية،
المهمة الثالثة: وهي نقل التكنولوجيا من منظومة التعليم العالي إلى النسيج الصناعي والخدماتيّ ومن منظومة النسيج الصناعي والخدماتيّ إلى منظومة التعليم العالي.
2- مهمة البحث التطبيقي بين التنصيص والتفعيل
لئن نجحت المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية في مهمة التكوين وانخرطت في منظومة «إمد» بسلاسة، مقارنة بغيرها من مؤسسات التعليم العالي، لما تملكه من قدرة على ردّ الفعل السريع والتطور والتجدّد، فقد همّشت وزارة الاشراف المهمّتين الاخريين وهما مهمتا البحث التطبيقي ونقل التكنولوجيا. إذ تغاضت الوزارة عن سنّ النصوص الترتيبية الخاصّة ببناء هياكل البحث التطبيقيّ بالمعاهد العليا للدراسات التكنولوجيّة، عدى الأمر عدد 644 لسنة 2009، والذي جعل من التكنولوجيين باحثين مثلهم مثل بقية زملائهم من الباحثين ممّا جعل البعض يذهب الى تقسيم المدرسين الجامعيين الى مدرسين باحثين ومدرسين غير باحثين بالرغم من أنّ ورود مصطلح البحث التطبيقي كان في القانون المؤسس للمعاهد العليا للدراسات التكنولوجية وذلك منذ 1992 وأنّ التنصيص عليه وإسناده كمهمة بحثية للتكنولوجيين كانا بهدف تمييزه اصطلاحيا عن البحث الأكاديمي المؤدي لنيل شهادة الدكتوراه.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى توفّر عوامل نجاح البحث التطبيقي والتطوير الصناعي بالمعاهد العليا للدراسات التكنولوجيّة، ولعلّ من أبرزها وجود منصّات تكنولوجية محترمة ومخزون هامّ من الكفاءات. وقد برز ذلك بصورة جليّة أثناء جائحة كوفيد19 التي اثبتت قدرة هذه المعاهد على التفاعل السريع مع الحاجيات المجتمعية الصحيّة. إذ تمّ انجاز العديد من الأجهزة المتطورة ذات التطبيقات الاستشفائية والصحية والضرورية لمواجهة آثار الجائحة، وذلك اعتمادا على تملّك وإتقان الهندسة العكسية كأداة للتجديد والتطوير الصناعي ونقل المعارف التكنولوجية لتأمين حاجيات المؤسسات العمومية والسوق المحلّية.
هذه النجاحات وغيرها لا يجب أن تغيّب عن المتابعين ضرورة معالجة الأزمة الهيكلية التي تعاني منها شبكة المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية والتي تعيق أداءها. فغياب هيكل أكاديميّ يسهر على التطوير وعلى المتابعة لتحقيق أهداف الشبكة من تكوين وبحث تطبيقي وتحكّم في التكنولوجيا واختزال الإشراف على هذه الشبكة في هيئة تسيير إدارية ممثّلة في إدارة عامة عوض جامعة يمثل عائقا دون تحقيق هذه الأهداف. كما أنّ افتقاد المعاهد العليا للدراسات التكنولوجيّة لهياكل بحثية تؤمّن اليقظة التكنولوجية ساهم في مزيد تعميق الشعور بالضبابيّة والقلق لدى الجامعيين التكنولوجيين ممّا ترتب عنه عدم اطمئنان البعض منهم والتحاقهم بمؤسسات التعليم العالي الأخرى بعد تغيير مساراتهم المهنيّة وكأنّ المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية أصبحت ممرا يطعّم بقيّة المؤسّسات.
فمعالجة هذه المشاكل الهيكلية تقتضي أوّلا عدم تجاهلها وعدم التملّص من المسؤولية. كما تقتضي ثانيا وضع استراتيجية لعمليّة الإصلاح ولآليّات تطبيقها وذلك عبر الإجابة عن الأسئلة المحوريّة التالية:
- كيف نفعّل البحث التطبيقي بفضاءات شبكة المعاهد العليا للدراسات التكنولوجيّة؟ هل يقتضي هذا بعث هياكل بحث تطبيقي بالمعاهد العليا للدراسات التكنولوجية كما تنص على ذلك اتفاقية أفريل 2013 غير المفعّلة؟ وما هي أفضل السبل للاستفادة من هياكل البحث الموجودة حاليّا؟
- كيف نصوغ قانونا أساسيّا لسلك المدرّسين التكنولوجيين يكون منسجما مع روح القانون عدد 50 لسنة 1992؟ كيف نضبط مسار الارتقاء العلمي للمدرسين؟
- كيف ننزّل التوصيات المضمّنة بالخطة الاستراتيجية الصادرة سنة 2015 والتي تمت المصادقة عليها من طرف مجلس الجامعات؟
3- في المقاربة الإصلاحية
إنّ أيّ مقاربة لإصلاح التعليم العالي لا بدّ أن تأخذ بعين الاعتبار وظيفته ودوره المرحلي في إيجاد حلول للتحديات التشغيلية لخريجي التعليم العالي عبر تمليكهم لمهارات تضفي على شهائدهم قيمة مضافة حقيقية تحوّلهم إلى صنّاع ثروة. كما تفترض هذه المقاربة الإصلاحيّة دعم اختيارات تكنولوجية استراتيجية قادرة على بناء اقتصاد قويّ. ولعلّ مثالي كوريا الجنوبية التي يعتمد اقتصادها على شركات سامسونغ وأخواتها (آل جي وهونداي) والصين التي أعطت أولويّة مطلقة للتكوين المهاراتي، إذ حوّلت أكثر من 600 مؤسسة جامعية أكاديمية إلى مؤسسات جامعية تكنولوجية في اختصاصات متنوعة، دليلان من جملة أدلّة على صحة الرّهان على الخيار التكنولوجي تكوينا وتصوّرا وتصنيعا للنهوض بالبلاد. فمتطلبات التقدّم والنهوض الاقتصادي والتحوّل من بلد مستهلك ومستورد للتكنولوجيا إلى بلد مصنّع ومنتج للعلوم والتكنولوجيا يستوجب تدعيم سلك المدرسين التكنولوجيين ومساعدته على انجاز المهام المذكورة وفتح الآفاق أمامه ممّا يفجّر الطاقات الكامنة داخله ويخدم مصلحة البلاد. فبلادنا بحاجة إلى كلّ أسلاك التعليم العالي وذلك لتكامل أدوارها في المساهمة في تحقيق التنمية الشاملة وجعل الجامعة محضنة للأفكار ولإيجاد كافة الحلول المجتمعية.
4- من اجل واقع بحثي جديد تكاملي
يعاني الواقع البحثي في تونس من مشاكل هيكليّة من أهمّ أعراضها عدم تثمين البحوث والمعارف ونقل التكنولوجيا للمؤسسات والشركات. فعدد الاتفاقات المبرمة بين الجامعات وبين المؤسسات الصناعيّة وعدد المشاريع المنجزة ضعيف جدّا، وينعكس هذا على عدد براءات الاختراع الذّي يكاد لا يذكر. أمّا عدد المؤسسات الصناعية التي تحتوي على وحدات بحث وتطوير صناعي، فلا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. ولتجاوز نقاط الضعف هذه، فلا بدّ من وضع توجّهات استراتيجية تعتمد على:
• أوّلا، دفع قطاع البحث الأكاديمي للتميز عالميا وذلك بتحسين هيكلته من حيث الموارد والتسيير ودعمه بالكفاءات العليا من خريجي المدارس الكبرى وتحفيزهم ماديا.
• ثانيا، استكمال بناء منظومة التعليم التكنولوجي وفتح الآفاق أمامها وتشجيع البحث الصناعي في المؤسسات وإسنادها بوحدات للبحث التطبيقي بالمعاهد العليا للدراسات التكنولوجية ودعم الماجستير المهني لتدعيم هذه الوحدات بالباحثين المتمرسين.
• ثالثا، دعم الشراكة مع المحيط الصناعي ومراجعة آليات تثمين البحوث ونقل التكنولوجيا وذلك بتشجيع الاعتمادات الخاصة بالبحث الصناعي وتأسيس شراكة دائمة ومهيكلة مع المؤسسات الجامعيّة وذلك عبر تركيز مخابر للبحث والتطوير بمؤسسات الإنتاج الصناعي لما لمنظومة التجديد و نقل التكنولوجيا من دور رئيسي في تطوير الناتج الداخلي (تأثير قد يصل إلى 74 ٪ على تطور الناتج الداخلي الخام) وربطها بوحدات البحث التطبيقي بالمعاهد العليا للدراسات التكنولوجية.
• رابعا، تطوير أداء الأقطاب التكنولوجية وتفعيل دورها التنموي وإلزامها بأولويّات البحث في القطاعات الاستراتيجية وإخراجها من وضعيّة الخمول فهي ليست مخابر بحث تابعة للجامعات، بل هي أقطاب تنمويّة بالأساس.
إنّ هذه المقترحات تبقى رهينة وضوح الاهداف والأولويات مدعومة بإرادة مجتمعية. لذلك لا بدّ من حوار مجتمعي راق حول إصلاح منظومة التعليم العالي يجيب عن السّؤال: كيف نجعل منظومة التعليم العالي والبحث رائدة أكاديميّا وبحثيا ورافعة لمنوال تنموي جديد يعتمد على تثمين البحوث ويجعل من الجامعة محضنة لنقل التكنولوجيا والتحكم فيها وفضاء لإيجاد حلول للتحدّيات المجتمعية كافّة الاقتصادية منها والثقافية والاجتماعيّة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115