فقد عجز النظام السابق على القيام بالإصلاحات الضرورية وبقائه سجين العائلة ومصالحها .ونتج عن هذا الفشل دخولنا في عصر الثورات الديمقراطية والتي وبالرغم من بعض النجاحات فإننا لازلنا نصارع أمواجها وإعصارها .
إلى جانب الأزمة السياسية تعيش بلادنا كذلك على وقع أكبر وأخطر أزمة اقتصادية منذ الاستقلال.وهذه الأزمة نتيجة لثلاث تطورات اقتصادية كبرى وهي أزمة نمط التنمية وانخرام التوازنات الاقتصادية الكبرى والانعكاسات المالية والاقتصادية لجائحة الكورونا.وعند وضعت هذه الأزمات الاقتصادية بلادنا على حافة الإفلاس وجعلت من الإنقاذ مهمة عاجلة .
كما امتدت هذه الأزمات إلى الجانب الاجتماعي لتعرف البطالة مستويات مرتفعة وخاصة بطالة الشباب وأصحاب الشهائد.والى جانب البطالة تعرف الصناديق الاجتماعية والتي شكلت أساس العقد المجتمعي الحديث أزمات مالية قد تعصف بها وفي نفس الإطار لابدّ من التوقف عند تراجع القطاعات الاجتماعية الكبرى (كقطاعي الصحة والتعليم) وحالة الوهن والضعف الكبير التي تعيشها .
تعيش بلادنا هذه الأزمات العويصة وقد تخبطت فيها كل الحكومات دون أن تكون قادرة على إيجاد الحلول والرؤى والبرامج للخروج منها وبناء تجربة سياسية جديدة.وقد حاول كثيرون فهم أسباب هذا العجز ووسائل الخروج منه .وقد أشارت عديد القراءات والدراسات إلى جوانب مختلفة لفهم هذه الأزمات وهذا العجز .
وسأركز في هذا المقال على نقطة مهمة لم تحظ في رأيي بالاهتمام الكافي في قراءة وفهم أزماتنا المتعددة،وتهم مسألة التفكير الاستراتيجي والاستشراف التي دخلت في أزمة عميقة منذ سنوات وأصبحت تجتر حلولا قديمة غير قادرة على إيجاد إجابات جديدة تأخذ بعين الاعتبار التطورات الكبرى والتغييرات التي عرفها العالم منذ سنوات .
ويمكن لنا أن نشير إلى أمثلة كثيرة تؤكد هذه الفرضية وعجز طاقاتنا ومؤسساتنا الوطنية ونهاية قدرتها على قراءة المستقبل وفهم تطوراته.ولعل أهم مثال على ذلك يخص الجائحة الصحية وانعكاساتها الرهيبة على ببلادنا في عدد الأموات والإصابات .كما يمكن أن نشير إلى التأخير الكبير الذي نعرفه في الحصول على التلاقيح.ففي الوقت الذي تحصلت فيه الكثير من بلدان العالم على التلاقيح ومن ضمنها العديد من البلدان العربية حيث انطلقت حملات التلقيح نجد أن بلادنا والمسؤولين على القطاع الصحي غير قادرين إلى اليوم على إعطاء تواريخ محددة لوصول الجرعات الأولى للتلاقيح وبداية هذه العملية لحماية الأرواح وإعادة الروح للاقتصاد وإلى المجتمع .
وفي رأيي فإن أسباب هذا الفشل ليست مالية أو اقتصادية بل تعود في رأيي إلى عجز في الاستشراف وقراءة التطورات المستقبلية لهذه الجائحة .فقد أعلن مسؤولونا الانتصار سريعا على الجائحة مما اثر على التعاطي الشعبي معها وتراجع كبير لمبادئ الحذر والحيطة .كما أن مسؤولينا ومؤسساتنا تأخروا كثيرا في البحث عن التلاقيح وتحديد إستراتيجية واضحة المعالم في هذا المجال .وبقينا إلى حد كبير نتعامل مع هذه الأزمة غير المسبوقة بوسائلنا التقليدية .
إن عجزنا في التعاطي مع أزمة الكورونا إشارة هامة الى عجز وفشل منظومة التفكير الاستراتيجي والاستشراف وعجزها على التطور ومواكبة التحولات الكبرى التي يمر بها العالم وروح العصر .
ويمكن أن نشير إلى مظاهر أخرى من هذا العجز ولعل من أهمها في الظروف الحالية الفرق الكبير بين التوقعات الاقتصادية التي تقوم بها مؤسسات الدولة والنتائج التي نصل إليها في نهاية المطاف وعلى سبيل المثال في هذا المجال هو قيام الحكومة بتوقعات اقتصادية عند صياغة قانون المالية التعديلي لسنة 2020 تشير إلى أن حجم الانكماش الاقتصادي سيكون بمستوى %7.0- . إلا انه في منتصف هذا الشهر قدم المعهد الوطني للإحصاء الأرقام النهائية لسنة 2020 والتي أشارت إلى أن حجم التراجع الاقتصادي كان بـ%8.8- وهذا الاختلاف بين التوقعات والنتائج في ظرف زمني بسيط بمستوى %1.5 هو فارق كبير جدا ولا يمكن القبول به .ومن النتائج المباشرة لهذا الفارق ضرورة إعادة النظر في السياسات التي تم رسمها وفي التوازنات المالية الكبرى للدولة .
يمكن أن نضيف الى هذين المثالين أمثلة أخرى عديدة وتشير كلها إلى الأزمة العميقة التي تعيشها مؤسسات ومنظومة التفكير الاستراتيجي والاستشراف وضرورة تجديدها بطريقة جذرية لتكون نبراسا للمرور إلى تجربة سياسية جديدة.
• التحديث السلطوي والاستشراف في بلادنا:
لقد عملت دولة الاستقلال في بلادنا منذ السنوات الأولى على بناء مؤسسات ومنظومة متكاملة للتفكير الاستراتيجي والاستشراف في بلادنا، فقمنا ببناء وتدعيم مراكز الإحصاء في عديد الوزارات منها والمعهد الوطني للإحصاء، والإحصاء نقطة الانطلاق والبداية لكلّ عملية استشرافية، فلا يمكن التفكير في ضبط أية برامج مستقبلية في ظل غياب قراءة واقعية للأوضاع السائدة وتحديد بعض الأرقام للأوضاع التي نطمح للوصول إليها.
وإلى جانب مركز الإحصاء قامت بلادنا بوضع منظومة متكاملة للبحث والتفكير الاستراتيجي على مستوى كل القطاعات الإستراتجية الاقتصادية والمالية والاجتماعية ثمّ أسسنا مؤسسة وطنية للاستشراف وأعطيناها رتبة وزارة من ناحية القانون، فكانت وزارة التخطيط التي أشرفت على صياغة كل المخططات والبرامج المستقبلية .كما أضفنا لهذه المنظومة البحث العلمي في الجامعات والذي لعب دورا مهما في ميدان البحث والتخطيط المستقبلي .
وقد تميزت هذه المنظومة بعدة ميزات من ضمنها هيمنة الدولة على كل المؤسسات البحثية والاستشرافية وجعلها تابعة للسياسيات العامة للحكومة.فلم تعمل هذه الأجهزة على تشجيع التنوع والاختلاف في داخلها .كما تميزت هذه المنظومة بجانبها الفوقي حيث كانت تاخذ التوجهات الكبرى والاختيارات الإستراتيجية من المركز السياسي والإداري ويقع تحويلها إلى برامج دون نقاشها والخوض فيها .
أما الخاصية الثالثة لهذه المنظومة فهي غياب المشاركة المواطنية وغياب منظمات المجتمع المدني ليقتصر التشاور والنقاش بين ممثلي السلطة السياسية والإدارية .
كانت خاصيات المنظومة الاستشرافية السائدة في دولة الاستقلال هي نتاجا للمنظومة السياسية السائدة وهي وليدة مشروع التحديث للدولة القوية والتي ستتجه تدريجيا نحو التسلط والاستبداد .فانخرطت المنظومة الاستشرافية في مشروع الدولة المهيمنة والحزب الواحد.وكان الهدف المرسوم لهذه المنظومة ومؤسساتها بناء رؤيا واحدة وتصور واحد لا تشوبه اختلافات أو تنوع . فكانت هذه المؤسسات من الناحية المنهجية في تناغم مع المشروع الحداثي للدولة القوية .
وقد نجحت هذه المؤسسات إلى حد كبير في صياغة المشاريع والبرامج والرؤى المستقبلية التي مكنت دولة الاستقلال من بناء مشروعها التحديثي وإنجاحه .
وفي فهم أسباب هذه النجاحات يمكن الإشارة إلى مسالتين هامتين – الأولى سياسية وتهم المشروعية الكبيرة التي حافظت عليها الدولة الوطنية في السنوات الأولى للاستقلال والتي مكنتها من المضي قدما وبسرعة كبيرة في مشروعها التحديثي.المسألة الثانية تهم الوضع العالمي والداخلي والذي تميز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بنسبة كبيرة من الاستقرار والصلابة جعلت عمل منظومة الاستشراف ليس بالصعوبة التي نعيشها اليوم.
إلا أن هذه الأوضاع ستتغير بطريقة راديكالية مما سينتج عنه عجز وفشل للمنظومة الاستشرافية في بلادنا كما في كل بلدان العالم .
• نحو جيل جديد من المؤسسات الاستشرافية
لفهم أزمة كأزمة المنظومة الاستشرافية لابد من الوقوف على مسالتين مهمتين – الأولى سياسية نتيجة أزمة الدولة القوية والاستبدادية ودخولنا في عصر سياسي جديد يتميز بالتحولات السياسية والديمقراطية في اغلب بلدان العالم .المسالة الثانية تهم دخولنا في مرحلة جديدة وخروجنا من عالم الاستقرار لندخل عالم التحولات الكبرى في كل الميادين الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والاجتماعية وقد صاحب هذه التحولات الكثير من عدم الوضوح مما يجعل الاستشراف صعبا ومعقدا .إن هذه التحولات والتغييرات الكبرى تتطلب منا بناء جيل جديد من المؤسسات الاستشرافية لفهم الستقبل وفك رموزه .وفي رأيي فإن المنظومة الجديدة للاستشراف والتفكير الاستراتيجي في عصر التحولات الكبرى لابد لها أن ترتكز على أربعة مبادئ أساسية – المبدأ الأول التعدد والتنوع لأنه لا يمكن في هذه الأوضاع المتغيرة الاكتفاء بمنظومة الرأي الواحد .المبدأ الثاني الخروج من هيمنة الدولة على منظومة الاستشراف وفسح المجال للأحزاب والمنظمات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني لبناء مراكز تفكير واستشراف.المبدأ الثالث هو الخروج من المبدإ الأفقي وبناء منظومة عرضية تدعم الحوار بين مختلف مكوناتها .المسالة الرابعة مبدأ المشاركة الوطنية وفتح باب الحوار المجتمعي حول الأولويات والرؤى للمستقبل .
تمر بلادنا بأزمات متعددة في فترة التحولات الكبرى .وهذه الأزمات تتطلب ظهور جيل جديد من مؤسسات الاستشراف والتفكير الاستراتيجي قادرة على فك رموز الواقع المتحول وضبط الرؤى المستقبلية .