ولئن تمكنت أغلب البلدان العربية من الخروج بأخف الأضرار من الموجة الأولى للجائحة فإن الموجة الثانية كانت لها انعكاسات رهيبة على المستوى الصحي حيث عرفت أغلب البلدان العربية نسبة كبيرة من العدوى وعددا من الأموات لم تعرفه في تاريخها الحديث.
وقد كانت للجائحة انعكاسات كبيرة على المستوى الاقتصادي في السنة الفارطة حيث ساهمت في تراجع النمو في أغلب البلدان العربية .وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن البلدان العربية لم تتمكن من الاستفادة من الحركية الاقتصادية الكبرى التي عرفها العالم في بداية القرن .وقد كانت العشرية الأولى لبداية القرن سنوات تحولات كبرى ومخاضا اقتصاديا وصناعيا وتجاريا .وقد استفادت عديد البلدان النامية وبصفة خاصة في آسيا وفي أمريكا اللاتينية من هذه الطفرة الاقتصادية لتعرف فترة هامّة من النمو والتنوع الاقتصادي ولتصبح من ضمن الدول الصاعدة التي يقرأ لها ألف حساب على الساحة العالمية .فالصين وكوريا الجنوبية والهند في آسيا والبرازيل والأرجنتين في أمريكا اللاتينية أصبحت من البلدان التي لها دور كبير في مسار العولمة وتصبح في ما بعد جزءا من مجموعة العشرين والتي ستلعب دورا كبيرا في إدارة مسار العولمة خاصة اثر الأزمة العالمية لسنوات 2008 و2009.
وكانت المنطقة العربية الجهة الوحيدة في العالم التي بقيت خارج الطفرة الاقتصادية لبداية القرن .فمعدل نسبة النمو للخمس عشرة سنة الأولى في هذا القرن لم تتجاوز %4.8 (بين سنة 2000 وسنة 2016) وهي تقريبا نصف نسبة النموّ في عديد البلدان النامية في آسيا وأمريكا اللاتينية والتي تجاوزت في العديد منها الرقمين .
وتعود أسباب ضعف النمو إلى محافظة أغلب البلدان العربية على نمط التنمية الريعي السائد في أغلبها منذ بداية السبعينات وعجزها عن تنويع اقتصادياتها .فالبلدان المصدّرة للبترول لم تتمكن من الخروج من هذا النمط وبقيت محافظة على الدور الأساسي للنفط في اقتصادياتها بالرغم من عديد المحاولات للخروج من هذا النسق التنموي وبناء أنساق جديدة.
كما أن البلدان غير المصدّرة للنفط التي بدأت منذ السبعينات في تنويع اقتصادياتها من خلال اعتمادها على القطاع الصناعي الموجه في جانب كبير منه للتصدير .إلا أن أغلب هذه البلدان مثل بلادنا والمغرب بقيت حبيسة القطاعات الصناعية ذات الكثافة العمالية العالية .وعجزت أغلب هذه البلدان عن الخروج من هذا النمط للتنمية وبناء نمط جديد يعتمد على الصناعات الذكية .
إن تراجع التنمية في البلدان العربية في بداية الألفية مقارنة بأغلب البلدان الأخرى وعدم استفادتها من الطفرة الاقتصادية التي عرفها العالم يعود بالأساس إلى أسباب هيكلية وعجز هذه البلدان عن بناء أنماط تنمية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التطورات الكبرى التي عرفها الاقتصاد العالمي في هذه الفترة .
والى جانب الأسباب الهيكلية لفهم العجز الاقتصادي العربي في بداية الألفية لابد من إضافة الاختيارات الكبرى للسياسات الاقتصادية التي اتبعتها البلدان العربية في هذه الفترة .
فخلافا للبلدان النامية الأخرى وخاصة البلدان الآسيوية وبلدان أمريكا اللاتينية واصلت البلدان العربية في تطبيق السياسات الاقتصادية التقليدية والتي جاءت مع برامج التعديل الهيكلي في بداية الثمانينات .
وكان هدف هذه السياسات تثبيت الاقتصاد والمحافظة على التوازنات الاقتصادية الكبرى.وقد نجحت أغلب البلدان العربية في تحقيق هذه الأهداف وحماية التوازنات الكبرى.وكانت نسبة معدل التضخم في حدود %4.7 في الفترة الفاصلة بين سنة 200 وسنة 2016.كما أن عجز المالية العمومية بقي محدودا ولم يتجاوز %3.1 في نفس الفترة.وبقيت مستويات العجز للتجارة الخارجية والتوازنات العالمية عالية حيث وصلت إلى %8.8 في نفس الفترة .
ولئن نجحت هذه الاختيارات في حماية التوازنات الكبرى للاقتصاد إلا أنها كبدت الاستثمار ولم تساهم في دفع مسار التحولات الهيكلية الضرورية لأغلب البلدان العربية .
وقد اختلفت خيارات السياسات الاقتصادية التي واصلت في اتباعها البلدان العربية عن السياسات التي تم اتباعها في اغلب البلدان النامية والتي حققت نتائج اقتصادية هامة ونوعية في نفس هذه الفترة .فقد قطعت هذه البلدان مع السياسات التقليدية لصندوق النقد وبرامج التعديل الهيكلي وانطلقت في برامج وسياسات إرادية هدفها دفع الاستثمار وروح المخاطرة في القطاعات الصناعية الجديدة .وقد لعبت هذه السياسات البديلة دورا أساسيا في دفع عملية التنمية ودعم التحولات الهيكلية التي عرفتها البلدان الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية .
وقد ساهمت الاختيارات الهيكلية وعجز البلدان العربية عن بناء نمط جديد وتوجهات كبرى للسياسات الاقتصادية في تراجع المنطقة العربية وهشاشة النمو في بداية الألفية في الوقت الذي عرف فيه العالم طفرة اقتصادية كبرى استفادت منها أغلب الاقتصاديات النامية .
وستتواصل هذه التوجهات الاقتصادية وهذه الهشاشة (الاقتصادية والعجز الاقتصادي العربي ) في البلدان العربية على مر السنوات .وستعرف المنطقة جائحة الكورونا في هذا الوضع الاقتصادي المتردي.وستزيد هذه الجائحة من حجم الصعوبات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية في هذه المنطقة .
وعرف الوضع الاقتصادي في المنطقة العربية ترديا كبيرا في السنة الفارطة نتيجة الجائحة .فنسبة النمو المتوقعة لسنة 2020 ستكون 5% .كما أن التوازنات الاقتصادية الكبرى للبلدان العربية قد شهدت تراجعا مخيفا لم تعرفه منذ استقلالها .
وستعرف المالية العمومية للبلدان العربية انخراما كبيرا سيصل حسب التوقعات بـ10.8 %.كما ستشهد التوازنات الخارجية الكبرى عجزا يقدر بـ%4.8 .كما عرف التضخم ارتفاعا كبيرا ليصل إلى نسبة سنوية متوقعة بـ6.2 % لسنة 2020.
تشير هذه المؤشرات إلى التراجع الكبير والتردي الهام للوضع الاقتصادي في المنطقة العربية نتيجة الجائحة والتي جاءت لتعمق جراح أغلب البلدان العربية .وقد بدأت أغلب مراكز البحث والخبراء في الاهتمام بمستقبل الاقتصاديات العربية للسنوات القادمة ومعرفة قدرتها على الخروج من هذه الأزمات .وقدرة العرب على القطع مع هذا الوضع الاقتصادي وبناء ديناميكية تنموية جديدة سيرتبط بشرطين أساسيين .الشرط الأول آني ويهم قدرة البلدان العربية على إنقاذ اقتصادياتها والخروج من الانهيار الاقتصادي الذي تمر به اليوم .وعودة النمو تتطلب مواصلة سياسات الدفع والدعم التي قامت بها بعض البلدان في السنة المنقضية.ولئن لم تكن سياسات الدعم في نفس المستوى وبنفس الحجم نظرا للاختلاف الكبير في الإمكانيات بين البلدان العربية ،فإن تواصل الجائحة سيتطلب من أغلب البلدان مواصلة سياسات الدعم من قبل الدول لإنقاذ الاقتصاد وإيقاف التدهور الكبير للوضع الاقتصادي .
كما سيرتبط استرجاع عافية الاقتصاد بقدرة البلدان العربية على توفير اللقاحات وتمكين مواطنيها من الوصول إلى اللقاح .وقد قام صندوق النقد الدولي بالقيام بتقسيم للبلدان العربية حسب وصولها اللقاح في أربع مجموعات :
-المجموعة الأولى هي البلدان التي أبرمت اتفاقات مع عديد المنتجين للقاح والتي بدأت في عمليات التلقيح وأغلب هاته البلدان هي البلدان الخليجية .
-المجموعة الثانية تهم البلدان الكبرى والتي ستنطلق في عملية تصنيع التلقيح وتمكنت من إبرام اتفاقات متنوعة مع عديد الشركات المصنعة للتلقيح ونجد منها مصر والمغرب .
-المجموعة الثالثة هي البلدان التي أعدت برامج تلقيح ولكنها أبرمت اتفاقات مع مزودين على الأكثر ومن ضمنها تونس .
- البلدان التي ستعتمد فقط على منظومة covax.
وحسب توقعات صندوق النقد الدولي فإنّ البلدان التي ستتمكن من التسريع بالتلقيح والحصول عل مصادر متعددة للتلقيح وتصنيعه ستكون البلدان التي ستعرف عودة النمو في
أقرب وقت .
أما الشوط الثاني للخروج من هذه الأزمات فهو قدرة البلدان العربية على ضبط أنماط تنمية جديدة والخروج من العجز الذي ميز التصورات الاقتصادية الكبرى منذ عقود .
إن جائحة الكورونا جاءت لتعمق جراح وأزمات الاقتصاد العربي والعجز الذي نعيشه منذ سنوات.وبالرغم من هذه الصعوبات والتحديات الجديدة فإن هذه الأزمة تفتح فرصة وإمكانيات انطلاقة جديدة .وهذه الانطلاقة تتطلب إجابات آنية للخروج من الصعوبات الحالية وإنقاذ الاقتصاد ورؤية وتصور للمدى الطويل من اجل بنماء نمط تنمية جديد .
العــــرب والجـــــــائحـــة
- بقلم حكيم بن حمودة
- 11:51 15/02/2021
- 855 عدد المشاهدات
تعيش أغلب البلدان العربية ككلّ جهات وبلدان العالم على وقع الجائحة وعلى انعكاساتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة.