الالتقاء التـاريخي داخــل العائلة الديمقراطية

بقلم: د.فتحي التوزري
سياسي مستقل
فتحت الثورة الباب واسعا نحو المستقبل وأطلقت العنان لأنتظارات عالية وأحدثت تغييرات جوهرية في المجتمع عموما وفي المشهد السياسي بالخصوص.

وفي سياق هذه الثورة تدافع القديم والجديد واحتدت المعركة بينهما وأخذت أشكالا عديدة ومتنوعة. وبعد مرور عشر سنوات مازالت القوى الجديدة لم تتشكل بالقدر الكافي ولا بالحجم الكافي للذهاب بالبلاد نحو المستقبل وبقيت تونس عالقة في منطقة رخوة تتقاذفها الأمواج وتحوم حولها المطامع ويهجرها باستمرار أبناؤها وبناتها. ويقود المشهد السياسي اليوم استقطاب هجين ومشوه للسياق التاريخي للثورة حيث يتواصل التجييش والتعبئة في صفوف التعبيرات القديمة الماضوية (النهضة والدستوري الحر) في محاولة منها لحسم الأمر كل لصالحه والعودة بالمنظومة إلى نموذج سلطوي سواء في شكله الديني الأسلاموي أو في شكله المدني التجمعي والذي لفظته الثورة وتجاوزته الأحداث.
وفي الأثناء تتواصل أزمة البلاد بحدة أشد وبمخاطر متعاظمة وبقلق يخترق كافة الشرائح الاجتماعية مع انهيار يكاد يشمل كافة مؤسسات الدولة. يواصل الرئيس قيس سعيد صراعه التراجيدي بنفس المقاربة ومازال جمهوره مساندا له ويتطلع معه إلى انتصار رباني. الحكم يترنح وتبدو الحكومة تائهة فيما يواصل مجلس النواب صراعاته الدنكيشوطية. ويتساءل الناس يوميا عن مآلات هذا الوضع المثقل بالهموم ولا يبدو في الأفق أي بصيص نور في هذا النفق المظلم الذي دخلت فيه البلاد.
عجزت المنظومة السياسية الحالية بمكوناتها الأبرز المسكونة بالماضي على إنتاج ريادة وزعامة وطنية قادرة وملهمة. غرقت هذه المكونات المتصدرة للمشهد السياسي في معارك فئوية وسياسوية وحسابات ضيقة أعمت بصيرتها على المستقبل ومتطلباته. كل ما أفرزته هذه المنظومة كان في شكل جزر متناثرة ومغانم مقتسمة وسرديات عدوانية وقيادات «نرجسية» أو «طائفية» تدور كلها حول «زعيم أوحد» ووعود ممسرحة بالحسم القريب. فلا فكر سياسي وواعد ولا قدوة مؤثرة ولا رؤية ملهمة ولا خارطة طريق واضحة، بل سب وشتم وتضخيم وتهييج ومناورات واستعراضات. سقطت البلاد في مستنقع التهافت السياسي بلا وازع ولا رادع، فهل بهذه الاستعراضات

وهذه الخزعبلات ستدار البلاد في الأعوام القادمة وستنجز أكبر مشاريعها وتوجهاتها المستقبلية؟

ماذا ينتظر التونسيون والتونسيات من أحزاب تآكلت وهجرها الناس وصار مجرد ذكرها مصدر إزعاج ونفور واستهزاء وازدراء. ماذا ينتظر من النهضة أن تفعل غير بيع الأوهام والجمل المنمقة وعقد الصفقات والتحالفات والتكتيكات لأضعاف الخصوم والاستفادة من مناوراتها وعلاقاتها الدولية المشبوهة لمزيد التغول والتمكن من مفاصل الدولة؟ تريد النهضة تسويق نفسها كمشروع متكامل وكضامن للاستقرار وكلاعب إقليمي مهم لأمن المنطقة واستقرارها متناسية أولويات البلاد ومفرطة في هموم الوطن ومتغاضية عن أدائها الرديء وسجلها الحافل بالوعود الزائفة. وماذا ننتظر من الدستوري الحر غير التجييش والتعبئة ضد النهضة والمتاجرة بقلق التونسيين والهوس برسكلة ماكينة التجمع للسيطرة من جديد على الحكم بلا رؤية أو لنقل برؤية ماضوية وبلا أجندة مقنعة للحكم الراشد ودولة القانون وفي ازدراء تام لأهداف الثورة ومعانيها الثقافية. ولا يمكن للحزب الدستوري الحر احتكار الوطنية ولا يبدو حاملا لمشروع مستقبلي دون اعتبار غياب الألق الذهني والمصداقية في إصلاح مؤسسات البلاد واقتصادها. وماذا ننتظر من فصائل العائلة الديمقراطية بعد أن تشتت وذهب ريحها وفقدت بريقها وألقها وأصابها الوهن والأحباط.
تشكل في الأثناء جيل جديد تمرس على الحرية والمشاركة والمواطنة وبدأ يظهر وزنه كفاعل سياسي من خلال الاستحقاقات الانتخابية، والمناسبات العديدة التي شكل فيها رأيا عاما ضاغطا في عديد القضايا المجتمعية وفي مجال الحوكمة. تأهل هذا الجيل للخوض في الشأن العام من خلال ما توفر من حرية وفرص للمجتمع المدني ومن خلال الأنشطة الحزبية وعديد المبادرات المواطنية التي رأت النور خلال عشرية الثورة، بالإضافة إلى ما يوفره الفضاء السيبرني من فرص وإمكانيات. خرج هذا الجيل للحياة العامة من رحم الثورة، ونما في ظلالها وكان شاهدا حيا على الانهيار الأخلاقي والسياسي والثقافي للمنظومة الحزبية الحالية وفشل النخب الحالية في صناعة مجد تونس أو لتحويل الثورة إلى نجاح سياسي واقتصادي وتألق ثقافي وإنساني.

جزء من هذا الجيل أطرده الوطن، وجزء تاه في البحث عن هويته وعن معنى الانتماء للدولة ومازال جزء من هذا الجيل يرفض هجر الوطن ويقاوم الإحباط، ويصارع القديم ويعبر بوسائل مختلفة عن رغبته في تعزيز انتمائه المواطني للبلاد من خلال تفعيل مشاركته وتقديم نفسه كجزء من الحل وكرمز لمستقبل واعد. وبعيدا عن ركام المشهد السياسي وصخبه تبقى بعض النجاحات التي حققها تونسيون وتونسيات من هذا الجيل سواء في المجال الثقافي أو الاجتماعي أو في مجال الأعمال والتجديد نقطة مضيئة ومصدر تفاؤل وأمل لمستقبل تونس وتقدمها. يريد هذا الجيل تحمل المسؤولية، ويريد توظيف طاقاته وقدراته لفائدة البلاد، وهو قادر على ذلك وله ما يكفي من الوقت ومن الإرادة والعزيمة لهذه المهمة النبيلة ولهذه المرحلة التاريخية وهو مرشح طبيعي لبناء مستقبل تونس ويتطلع إلى تونس أخرى مشرقة بديمقراطيتها ومبدعة بشبابها وملهمة بثورتها الفريدة.
جزء كبير من المنتسبين لهذا الجيل يعتبرون أنفسهم جزءا أساسيا من العائلة الديمقراطية المؤمنة بالثورة ومع ذلك لا تمثيلية سياسية لهم في إطار المنظومة الحزبية الحالية، وهم أشد الناس نقدا لها وإيمانا راسخا بتجاوزها. إن التقاء هذا الجيل وتواصله مع بقية النخب السياسية من مختلف الأجيال في إطار المشروع الديمقراطي المنبثق من الثورة يشكل فرصة تاريخية حقيقية في ظل أزمة الحكم المستشرية والمنذرة بالمخاطر. لذلك على العائلة الديمقراطية التقاط هذه اللحظة التاريخية الفريدة، والانتباه لهذا الالتقاء وتثمينه سياسيا والتسريع بتدارك الأمر وتجاوز أخطاء الماضي وإطلاق ديناميكية سياسية جذابة وبناءة. يتطلب هذا التحدي البحث عن الصيغة الفضلى لرسم ملامح المشروع الديمقراطي الذي تستحقه تونس والذي ناضل واستشهد من أجله الكثير. كما يتطلب الابتعاد عن الفرز الأيديولوجي والاكتفاء بالمشترك الكبير بينها والتجهيز لاستقطاب بناء ومثمر بين هذا المشروع وبين المشاريع المفسدة للحياة السياسية والمفلسة تاريخيا والمتاجرة بآلام الشعب وهمومه.
تبرز القيادات الكبرى في المنعرجات التاريخية الحاسمة، والمشروع الديمقراطي المجسد للثورة وأهدافها بحاجة إلى قيادة قريبة من الناس، حاملة لهمومهم، مستلهمة البعد الثقافي والإنساني في الصراع السياسي تقود البلاد إلى نصر عظيم واستقرار مثمر يحقق أهداف الثورة ويضع تونس مجددا في اتجاه النجاح و الريادة والإبداع.
ديمقراطيتنا الناشئة والواعدة تستحق جيلا جديدا ومتجددا من السياسيين استفاد من أخطاء الماضي وترعرع في الحرية وتمرس بها وآمن بطاقاتها واستفاد منها. والبلاد بحاجة إلى قيادة من طينة أخرى من هذا الجيل بالتحديد، ترى المستقبل وتعي أولويات المرحلة ومستعدة لبذل الجهد اللازم لإنقاذ البلاد مع التواصل الضروري للأجيال. وتتوفر لمكونات العائلة الديمقراطية الكفاءات والمهارات الشابة ما يؤهلها لتقديم نخبة جديدة متحفزة وقادرة على إلحاق الهزيمة الانتخابية بالمشاريع الماضوية والسلطوية.
المعركة الأساسية اليوم هي معركة الانتخابات التشريعية القادمة. وهي فرصة حقيقية لأفتاك الحكم ممن اغتصبوا الثورة وغدروها وانحرفوا بها وأدخلوا المؤسسات في أزمة والبلاد في أزمة وأنهكوا مقدراتها وأساءوا لصورة تونس ومكانتها في الداخل والخارج وتاهوا في معارك الحكم وأعمتهم الصراعات عن مشاكل الناس ومصلحة البلاد. سيحاسبهم التاريخ، وستكون خسارتهم بداية العقاب. الاستقطاب آت لامحالة، ومن الأجدر بالعائلة الديمقراطية تجهيز نفسها مبكرا لسحب البساط ممن فشلوا في الذهاب نحو الاستقرار وتجسيد استحقاقات الثورة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115