بعد ان تم تعميدها من عدد من «أساقفة القانون الدستورى» الى أن أصبحت حقيقة مقدسة لا يرقى لها الشك...
وبين مسافة التعميد والتسويق نشهد تغييب ممنهجا في جميع المنابر الاعلامية للعديد من الحيثيات التي تدحض هذه الفرضية، أبرزها:
- وحيث انه تاريخيا درج أن يتم فصل النزاعات ذات العلاقة بتفسير القواعد الدستورية وتأويلها من خلال فقه القضاء دون سواه وذلك منذ اكثر من قرنين حين أقرّت المحكمة العليا الأمريكية 1803 حق القضاء في مراقبة دستورية القوانين، منذ ذلك التاريخ أمسى فقه القضاء يحتل مكانة مميزة ضمن مصادر القانون الدستورى وملزم لجميع السلط العمومية من اتباع قرارات وتوجهات المحاكم الدستورية.
- وحيث ان السلطة القضائية بمنطوق الفصل 102 من الدستور التونسى تٌعتبر « سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات». وأن علوية الدستور لن تتحقق الا بواسطة هيئة قضائية متخصصة في مراقبة دستورية مشاريع القوانين والمعاهدات الخ.
- وحيث ان الدستور التونسى خصّص قسما كاملا - القسم الثانى من الباب الخامس من الدستور - للمحكمة الدستورية كهيئة قضائية عليا مختصة في مراقبة دستورية مشاريع القوانين والمعاهدات الخ - الفصل 120 من الدستور-.
- وحيث ان مبدأ التفريق المرن للسلط التي تستند إليه فلسفة دستور الجمهورية الثانية يضمن استقلالية كل سلطة ويحجر تحجيرا مطلقا استعاضة سلطة بأخرى.
- وحيث ان عبارات «السهر على احترام الدستور» المنصوص عليها بالفصل 72 من الدستور والمستمدة من القانون المقارن لا تمنح إطلاقا صفة القاضى الدستورى لرئيس الجمهورية - بقطع النظر عن شخصه - .بل المقصود منها ان على رئيس الجمهورية ان يسهر على حسن تطبيق أحكام الدستور ومختلف تفسيراته التي استقرّ عليها فقه القضاء الدستوري.
- وحيث ان الفقرة 7 من الفصل 148 من الدستور أقر بوجوبية احداث «هيئة وقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين» إلى حين احداث المحكمة الدستورية.
- وحيث أن تركيبة هذه الهيئة وفق نفس الفصل تتكوّن من :
• الرئيس الأول لمحكمة التعقيب رئيسا
• الرئيس الأول للمحكمة الإدارية عضوا
• الرئيس الأول لدائرة المحاسبات عضوا
ثلاثة أعضاء من ذوى الاختصاص القانونى يعينهم تباعا وبالتساوى بينهم كل من رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
- وحيث ان «الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين» أحدثت بمقتضى قانون أساسى عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 ، تتمتع بالاستقلالية الادارية والمالية وان قراراتها مٌلزمة تنشر بالرائد الرسمى للجمهورية التونسية.
- وحيث انها باشرت مهامها فعليا منذ مدة وقامت بالفصل في العديد من الدفوعات بعدم دستورية مشاريع القوانين الواردة أساسا من مجلس نواب الشعب، وكان لها الدور الحاسم في حماية «المجلس الأعلى للقضاء» من تدخل السلطة التنفيذية - راجع القرار الصادر عن الهيئة عدد 2-2015 المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء.
- وحيث ان إمكانية حدوث شغور في رئاسة الهيئة في المستقبل - المتداولة هذه الايام على خلفية رفع الحصانة القضائية عن الرئيس الاول لمحكمة التعقيب - قد نظمه الفصل 14 من القانون الأساسى للهيئة وذلك بتولّى الرئيس الأول للمحكمة الإدارية رئاسة الهيئة إلى حين تعيين رئيس اول جديد لمحكمة التعقيب.
- وحيث ان التأخير الممنهج في إرساء المحكمة الدستورية أدى الى تنازع مؤسساتى خطير داخل الثالوث الحاكم (القصبة، باردو وقرطاج) مما يستوجب الاستعجال بالاستئناس بالأعمال التحضيرية الممهدة لدسترة المحكمة الدستورية والأحكام الانتقالية واعتماد الصياغة الأصلية الموسعة لصلاحيات الهيئة التي جاء بها الفصل 148 بعدم اختزالها في نطاق مراقبة مشاريع القوانين فقط لتشمل بشكل مؤقت مختلف الاختصاصات الراجعة بالنظر للمحكمة الدستورية.
- وحيث أن الدستور ينص على تزامن انتهاء أعمال الهيئة مع احداث المحكمة الدستورية - المطة الاخيرة من الفقرة 8 من الفصل 148 من الدستور - الذى من شانه ان يٌسند بقوة ضرورة توسيع صلاحيات الهيئة .
- وحيث ان المهام الاستشارية تدخل صلب اختصاصات المحكمة الإدارية على معنى الفصل 4 من القانون الأساسي عدد 40 لسنة 1972 المؤرخ في أوّل جوان 1972 المتعلّق بالمحكمة الإدارية الذى ينص على أن «تقع استشارة المحكمة الإدارية وجوبا بشأن مشاريع الأوامر ذات الصبغة الترتيبية. وتستشار المحكمة الإدارية بخصوص مشاريع النصوص الأخرى وبوجه عام حول كافّة المواضيع التي تقتضي الأحكام التشريعية أو الترتيبية مشورتها أو التي تعرضها عليها الحكومة لإبداء رأيها فيها ويحال نصّ كل استشارة متعلّقة بمشروع قانون أو بمشروع مرسوم على مجلس النواب».
- وحيث أن المحكمة الادارية سبق أن تولّت النظر في الدفوعات بعدم دستورية القوانين بعد ان أقرّت الجلسة العامة القضائية بالمحكمة الإدارية منذ 7 نوفمبر 2013 باختصاصها بالنظر في دستورية القوانين عن طريق الدفع معتبرة أنه « لئن كان دور القاضي الإداري يتمثل في التثبّت من مدى حسن تطبيق القانون، فإنّه من واجبه في غياب محكمة دستوريّة تبتّ بصفة أصليّة في مطابقة القانون للدستور، النظر في مدى احترام النص التشريعي لمصادر القانون التي تعلوه والمتمثلة في الدستور والمبادئ الأساسيّة ذات القيمة الدستوريّة وكذلك المعاهدات النافذة ليخلص عند الاقتضاء إلى استبعاده كلما تمّ الدفع بذلك أمامه».
- وحيث ان لرئيس الجمهورية مثله مثل سائر خبراء القانون الحق كل الحق بأن يدلو بدلوه في جميع المسائل الدستورية بصفته رجل قانون لا غير وليس كرئيس للجمهورية، وبالتالى فان آراءه ومواقفه لا تكتسى باى حال من الأحوال طابع إلزامي او ان تكون بديلا عن القاضى الدستورى مثلما يٌسوّق اليه في العديد من الفضاءات الإعلامية العمومية والخاصة.
- وحيث ان العبث اللادستورى بلغ مستويات خطيرة قد تحول دون مباشرة عدد من الوزراء لمهامهم بما يٌقوّض ذلك ما تبقى من عملية الانتقال الديمقراطى والانحراف بها نحو نظام رئاسوى سلطوي
واعتبارا لمجمل هذه الحيثيات القانونية والواقعية المتضافرة، وفي ظل تواصل غياب المحكمة الدستورية الى أجل غير مسمى يعود تأويل أحكام الدستور حصرا وبدرجات متفاوتة بين «الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين» كجهة اختصاص أصلية والمحكمة الدستورية كجهة اختصاص فرعية، دون ذلك سنعيد انتاج منظومة اغتصاب السلط البائسة.
في النهاية، متى يقلع قسم من الدوائر النافذة - خاصة في قرطاج - عن عادة خلع الأبواب المفتوحة؟