بالأساس توضّح الأخبار والمعلومات والصور والفيديوات المنشورة هنا وهناك أنّ المشاركين فيها معظمهم أوّلا من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و18 سنة، وأنّهم في الغالب من المنتمين إلى الأحياء الشعبيّة سواء في أحواز العاصمة أو في الولايات الداخليّة. كان الانقسام المشار إليه هو المحور الأساسي للنقاشات والجدل بين المتابعين للأحداث في حين أنّ الأمر لا يمكن مبدئيّا أن يكون محلّ نقاش كبير، فتلك الأحداث المتّسمة بالعنف والتعدّي على الأملاك الخاصّة والعامّة لا يمكن إلاّ أن تكون سوى أعمال خارجة عن القانون وهي أعمال عنف، ولكنّها في الآن نفسه احتجاجات غير أنّها احتجاجات من طبيعة مخصوصة جدّا قد لا يكون المراهقون المشاركون فيها واعين تمام الوعي بدوافعها أو بأهدافها تمامًا كالكثير من الردود الانفعاليّة غير الواعية في علم النفس التحليلي.
منذ عشر سنوات تحرّك الشارع التونسي تحت شعارين أساسيّين ومتلازمين؛ الأوّل هو «إسقاط النظام»، والثاني، والذي يلخّص الهدف من الشعار الأوّل: «شغل، حريّة، كرامة وطنيّة». ما نتغافل عنه، ونصل إلى القيام بنوع من المخاتلة الخطابيّة لتكريس التغافل عنه، أنّ هذين الشعارين أو المطلبين مرّ عليهما عقد كامل، وهذه المدّة، وعلى عكس ما يُشاع، ليست مدّة بالقصر الذي نتصوّره اليوم تحت خطابات من نوع أنّها مدّة لا تعني الكثير في تاريخ الشعوب أو الثورات، بل حتّى خطابات أخرى من نوع أنّ الثورة سيرورة تاريخيّة متواصلة، أو أنّ الأمور تحتاج إلى فترة طويلة لتغيير العقليّات والذهنيّات، إلى غير ذلك ممّا نسمعه بصورة شبه يوميّة في نوع من القياس العقيم مع ثورات أخرى تعود إلى القرن الثامن عشر مثل الثورة الفرنسيّة وقد سمعنا المقارنة عشرات المرّات وحفظنا عن ظهر قلب كلامًا من نوع أنّها بقيت أكثر من قرنين لتتركّز مطالبها، وشهدت انتكاسات وعودة إلى الملكيّة والإمبراطوريّة. ومن الغريب مثلا غياب مقارنات مع أحداث كبرى من السياقات نفسها مثل ما وقع في ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية أوّلا، ثمّ بعد سقوط حائط برلين ثانيًا، وهو ما ينسحب على الكثير من دول شرق أوربّا الشيوعيّة لاحقًا. إنّ مثل تلك المقارنات التي تبدو من الناحية الصوريّة الصرف منطقيّة، وربّما تكون منطلقة لدى أصحابها من حسن النوايا الطامحة إلى زرع الأمل، والتفاؤل، والإيمان بمستقبل أفضل، وقد تكون مندرجة أيضا ضمن محاولات تهدئة الأوضاع ومحاصرة الدعوات إلى التغيير الجذري والسريع، تلك المقارنات تغيب عنها، في تقديرنا، مسائل جوهريّة قد تؤدّي إمّا إلى عدم فهم ما يجري، أو حتى إنكاره، أو اتّخاذ مواقف ضدّه بناء على خوف مشروع من الفوضى.
أوّل ما يغيب عن هذه الاعتبارات والمقارنات أنّ عشر سنوات في القرن الثامن عشر أو بداية القرن العشرين لا تعادل مطلقًا عشر سنوات في القرن الحادي والعشرين، فالمسألة لا ترتبط فحسب برزنامة الأيّام والأشهر وعدد السنوات، وإنّما وبالخصوص بالتحوّلات الاجتماعيّة والتكنولوجيّة والإعلاميّة وطبيعة انتقال المعلومة والمدّة الزمنيّة الضروريّة
لاكتشاف العالم والأفكار والقيم. إنّ ما كان يحدث خلال عشر سنوات منذ قرنين أو قرن بطيء جدّا مقارنة بما يحدث اليوم في ظلّ هذا الانتقال الرقمي المتسارع، وهو انتقال غيّر من طبيعة المعرفة وطرق تناقلها ومضامينها وكذلك طبيعة الذهنيّات وكلّ المنظومات. لقد دأبنا مثلا قديمًا على اعتبار أنّ «الجيل» هو تقريبًا في حدود 33 سنة، أي ثلث قرن كامل، فهل مازال ذلك صالحًا اليوم؟ فلو انطلقنا من ملاحظات بسيطة بين أبنائنا الّذين قد تفصل بين أحدهما والآخر سنوات قليلة جدّا سنجدهما ينظران إلى الأشياء بطرق مختلفة تحدّدها وسائط المعرفة والتواصل؟ إنّ الزمن الذهني متسارع بدرجة رهيبة وهو ليس مطلقا الزمن الكرونولوجي المتداول، فما استغرقه أمر ما سنوات لمعرفته منذ عقود قد لا يستغرق الآن سوى أيّام قليلة، أو ربّما أحيانًا دقائق معدودات. بناء على كلّ ذلك نرى ضرورة التخلّي نهائيّا عن فكرة أنّ عشر سنوات في حياة الشعوب لا تعني شيئًا أو انّها فترة قصيرة وأنّ الأمر يتطلّب عقودا كثيرة لتغيير الذهنيّات والعقليّات ونكرّر باستمرار تلك الجملة الرتيبة «زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون». إنّ هذه الملاحظة لا ترتبط بأيّ شكل من الأشكال بالسياسيّين وأصحاب القرار الّذين عرفناهم خلال العشريّة الأخيرة سواء ممّن تقلّدوا الحكم أو ممّن عارضوهم فالواضح اليوم أنّهم خارج الزمان والمكان.
ما يغيب عن الاعتبارات الّتي أشرنا إليها أعلاه ولكن بدرجة أقلّ لأنّه تمّت الإشارة إليه ولكن دون التأكيد عليه وأخذه أداة أساسيّة في التحليل والفهم، هو أنّ الفئة العمريّة الّتي كانت في طليعة هذه الأحداث، هي فئة ما بعد جانفي 2011 بمعنى أنّها، في معظمها، كانت في حدود 4 إلى 8 سنوات زمن الثورة التونسيّة، وهي بذلك ليست نتيجة الأوضاع الّتي سادت زمن حكم بورقيبة بالكليّة ولا هي نتيجة أوضاع زمن بن عليّ في أغلب سنوات عمرها. هذا جيل بدأ يتلمّس خطواته الأولى في الحياة زمن الثورة. وعلينا هنا التساؤل عمّا تغيّر وعمّا بقي على حاله قبل 2011 وما بعدها. وبشكل سريع جدّا، وقد يكون مخلاّ بحكم ضيق المجال، ما تغيّر هو الأوضاع المرتبطة بإمكانية الاحتجاج الواسع والتعبير عن المشاغل والطموحات بحريّة والمطالبة بالعيش في ظروف أفضل. وما لم يتغيّر وبقي جامدًا ومحافظًا ومنغلقا هو «المنظومة» أو ما يتمّ التعبير عنه تداوليّا بكلمة «السيستام»، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس. ما يقف ضدّه هذا الجيل ليس النظام بل المنظومة، وهذا الأمر على عكس ما يبدو للبعض ليس وليد هذه الأحداث الراهنة بل هو قديم، فما يبدو «ضدّ
النظام» هو في الحقيقة «ضدّ المنظومة» (antisystème)، وقد وجد ذلك أشكاله التعبيريّة العنيفة والرافضة في مظاهر عديدة من أهمّها ما يُكتب على جدران الشوارع، والإصرار العنيد على رفض كلّ القوانين، والولع بأغاني راب معيّنة خاصّة إذا تضمّنت ما يخرق المنظومات السلوكيّة والقيميّة والقانونيّة والتربويّة وغيرها، وكذلك برز ذلك في مجموعات الفرق الرياضيّة وهي ظاهرة معقّدة جدّا سوسيولوجيّة، إذ أنّها بنيويّا شبيهة بالجماعات المغلقة الّتي لا تظهر في الإعلام مثلا وترفض ذلك رفضا قطعيّا، ولها نواميسها الخاصّة بها، ولغتها الخاصّة، وتغدو كلّ مجموعة بمثابة الجماعة المنكفئة بذاتها عن بقيّة الجماعات وعن المجتمع وتخلق ضربا من الهويّة المغلقة، وكلّ هويّة مغلقة لا تؤدّي إلاّ إلى العنف. وما يحصل الآن هو التعامل مع كلّ ذلك بأدوات متقادمة لا تعني شيئا بالنسبة إلى هذه الفئة العمريّة وهي خارجة تمامًا عن آفاقه الذهنيّة بل هي مرفوضة عنده ولا تتابعها مطلقًا. فليعلم المحلّلون وغيرهم أنّ هذه الفئة لا تتابع برامجهم الإعلاميّة ولا نسمع ما يقولون ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال جرّها إلى «المنظومة» بأيّ شكل من أشكال الدروس
والوعظ والإرشاد، وهي أشكال نصرّ إصرارًا عجيبًا ومرضيّا على المحافظة عليها. ونرى أنّه إصرار لا ينبع من منطلق الحفاظ على الدولة والمجتمع بل حتّى «النظام» وتجنّب الفوضى، بل من منطلق الدفاع عمّا يساهم به بقاء تلك المنظومة على حالها من محافظة على المواقع والمكتسبات الشخصيّة للكثيرين. أمّا الإبقاء على المنظومة بالنسبة إلى السياسيّين منذ 10 سنوات، حكّامًا ومعارضة، على الرغم من أنّ أغلبهم يعلن عن ضرورة التغيير والإصلاح وحتّى «الثورة» وغير ذلك من الشعارات، فمندرج في إطار إمّا تجاهل أو عدم فهم أنّ زمن الانتقال الديمقراطي ينبغي أن ينتهي، وينتهي ديمقراطيّا، بمعنى ألاّ يتمّ تأبيده لأهداف شخصيّة وحزبيّة وسياسويّة، بمعنى الفراغ من استكمال الهيئات الدستورية المتعثّرة بل المُعرقَلَة، وفي طليعتها المحكمة الدستوريّة والنظر بجدّية في مسألة النظام السياسي والقانون الانتخابي وتطبيق القرارات القضائيّة المرتبطة بالانتخابات السابقة دون خوف أو حسابات. وهذا ما يسمح بالمرور إلى المرحلة السياسيّة الحقيقيّة أي الاهتمام بالشأن العام والانكباب على حياة النّاس اليوميّة دون غيرها، فتلك هي السياسة بمعناها النبيل. وما يمنع ذلك هو أنّ السياسيّين، وهنا أكاد أضعهم في سلّة واحدة، لم يفهموا أو هم لا يريدون فهم أنّه ينبغي تجاوز الصراعات حول الدولة أوّلا، وحول الحكم ثانيًا، ليتوجّهوا إلى التنافس حول خدمة الشأن العام. وهذا ما سيجعلهم عاجزين عن الفهم تماما، ويولّدون بتعاميهم أزمات متتالية لن تحدث اليوم مرّة كلّ عقدين أو ثلاثة بل ستكون مستمرّة ومتتالية بشكل سريع جدّا وقد يتضاعف عنفه، ممّا سيمثّل تهديدا حقيقيّا للدولة برمّتها وهذا مكمن الخطر.