ومحمد صالح الجابري كان من الجيل الأول للروائيين التونسيين وأصدر العديد من الروايات مثل «يوم من أيام زمرا» و»البحر ينشر ألواحه» .وقد تناول أبناء جيلي هذه الروايات بالقراءة والدرس في معاهد التعليم الثانوي .
وكانت «ليلة السنوات العشر في رأيي» إحدى أهم روايات محمد صالح الجابري حيث تم اختيارها ضمن قائمة أحسن مائة رواية عربية .وقد قام المخرج السينمائي إبراهيم باباي بتحويلها إلى شريط سينمائي .إلا أن الرقابة منعت هذا الشريط من الخروج إلى القاعات السينمائية ولم ير النور إلا سنة 1990 نظرا لقراءته النقدية لتطور ومسارات دولة الاستقلال ومشروع التحرر الوطني.
وتدور أحداث الرواية بين ثلاثة أصدقاء جمعتهم أحلام الثورة الوطنية ضد المستعمر وسيلتقي الأصدقاء بعد أن فرقتهم الحياة لسنوات طويلة .وسيكون هذا اللقاء فرصة للأصدقاء للوقوف على مسارات الدولة الوطنية وتلاشي وتراجع الأحلام التي جمعتهم في مخاض الثورة .
لقد طرحت هذه الرواية مسألة أصبحت تقليدية في مسار الثورة وهي الكآبة الثورية (mélancolie révolutionnaire) والتي تصاحبها عند عجزها على تحقيق الآمال والأحلام التي حملتها .وقد خصص الفيلسوف الفرنسي Enzo traverso كتابا مهما لهذه المسألة أصدره منذ سنوات تحت عنوان «Mélancolie de gauche» أو «كآبة يسارية» .وقد تعرض في هذا الكتاب بطريقة ممتعة من النواحي الفلسفية والتاريخية وحتى النفسية لهذه الحالة من الكآبة التي تصاحب الثورات خاصة عندما تحيد عن الأهداف التي قامت من أجلها .
هذه الملاحظات والتجارب تشير إلى أن الحالة التونسية ووضعية الكآبة التي نعيشها بعد عشر سنوات من الثورة ليست حالة خاصة بل هي وضعية صاحبت العديد من الثورات في كل بلدان العالم .
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بكل حدة هو فهم أسباب هذه الكآبة واليأس اللذين يصاحبان حياد الثورات عن مساراتها وأهدافها .
وفي رأيي لابد من الإشارة إلى مسألتين هامتين تفسران في رأيي هذه الحالة والتي نعيشها التي تفسر هذا الشعور باليأس والإحساس بالكآبة والحزن من مسارات الثورة .المسألة هي سياسية واجتماعية وتهم ما يمكن أن نسميه بغياب الكتلة التاريخية كما عبر عنها المفكر والقائد الشيوعي قرامشي في الحديث عن الحركات الاجتماعية وديناميكية الصراع الاجتماعي .ومفهوم الكتلة التاريخية يعني جملة من الفئات الاجتماعية والطبقات وقوى وتيارات سياسية واقتصادية وثقافية تقوم بتحالف واسع من أجل القيام بتغيير سياسي أو ثورة.ومن شروط نجاح هذه الكتلة التاريخية وجود فئة اجتماعية أو سياسية مهيمنة نتيجة نفوذها السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي والتي تكون قادرة على قيادة هذا التحالف و تمكينه من تحقيق أهداف سياسية واضحة المعالم .
وأهمية هذه القراءة تكمن في رأيي في اختلافها وتناقضها مع القراءة الماركسية التقليدية والتي تربط التغيير الاجتماعي بصعود طبقة اجتماعية معينة والتي تكون قادرة على قيادة الثورات والتغيير الاجتماعي وهذه الطبقات هي البورجوازية في المجتمعات الإقطاعية والطبقة العاملة في المجتمعات الرأسمالية .وقد عرفت هذه القراءة الكثير من النقد لعدم قدرتها على قراءة وفهم تعقد المسارات التاريخية والاجتماعية وتشابكها.
ويوفر مفهوم الكتلة التاريخية إطارا فكريا أكثر انفتاحا لفهم التحولات التاريخية الكبرى .
ولو عدنا إلى مسار الثورة التونسية نجد أن احد التحديات الأساسية التي واجهتها هي غياب هذه الكتلة وهذا التحالف التاريخي القادر على توحيد أغلب التونسيين في هذه اللحظة التاريخية.وغياب التعبيرة السياسية للفئات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية كان من نتائج محاولات التدجين التي قام بها النظام السابق .وبلادنا ليست استثناء في هذا المجال فقد حاولت الأنظمة الاستبدادية في كل بلدان العالم إطفاء جذوة التعدد الاجتماعي واختزال مجتمعاتها في مفهوم الشعب والوحدة الوطنية والتي لا تقبل الاختلاف والتنوع .وقد سعت الأنظمة الشمولية أو الاستبدادية إلى نفي الاختلاف والتأكيد عل الوحدة التي تلتقي حول مؤسسات الدولة.ولا يسمح هذا المشروع بالتعبيرات المستقلة للفئات أو الطبقات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية ويكبت كل محاولات الخروج عن هذه الوحدة الزائفة والتي لا يمكن فرضها إلا من خلال قوة مؤسسات الدولة وهيمنتها .
ولعل احدى التحديات التي تعيشها هذه المجتمعات هي غياب المؤسسات الوسطية كالأحزاب والمنظمات الاجتماعية والمهنية والثقافية لتأطير وتنظيم الصراعات بطريقة مدنية وحضارية .وغالبا ما تتحول الثورات في هذا الغياب الى انتفاضات وفي بعض الأحيان إلى حروب مدمرة لا يمكن إيقافها كما كان الشأن في سوريا وليبيا واليمن .
وقد عرفت بلادنا نفس هذه الأوضاع غداة الثورة .فالأحزاب السياسية كانت ضعيفة ومهمشة وفاقدة لتأثيرها في الساحة السياسية منذ سنوات .أما المنظمات الاجتماعية كالاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة ولئن بقي لها تأثير هام على المستوى الاجتماعي فقد منعها النظام من لعب أي دور سياسي وطني حتى عشية الثورة أين تحررت من هذا المنع .
ويمكن أن نقول نفس الشيء عن للمجتمع المدني الذي عرف مراقبة كبيرة ولم تتمكن منظماته من النشاط بصفة فاعلة ومن لعب دورها السياسي والاجتماعي بكل حرية .
كان لجملة هذه العوامل تاثير كبير في غياب كتلة تاريخية قادرة على توجيه المسار السياسي الذي فتحته الثورة منذ انطلاقتها .وقد وجدت بلادنا على خلاف بلدان الربيع العربي الأخرى في المنظمات الاجتماعية ضالتها لقيادة المسار السياسي في غياب الكتلة التاريخية.فإثر الأزمة السياسية وظهور شبح العنف والاغتيالات السياسية في بداية 2013 لعبت منظمات المجتمع المدني وخاصة الرباعي الراعي للحوار الدور الأساسي للخروج من هذه الأزمة ومواصلة تجربة التحول الديمقراطي بطريقة مدنية .
والمسألة الثانية التي صاحبت غياب الكتلة التاريخية وكنتيجة لها هي فقدان بلادنا لرؤية إستراتيجية وتصور طويل المدى لبناء تجربة جديدة .فالاختيارات والبرامج كانت محل صراعات واختلافات كبرى ولم نتوصل إلى توافق على أهم السياسات والإصلاحات.فأغلب الاختيارات الاقتصادية هي إلى حدّ اليوم محل تجاذبات كبرى لم تساعد على بناء رؤية اقتصادية جديدة ونمط تنموي جديد.خيمت كذلك نفس الصراعات والخلافات على المسائل السياسية لتبقى أهم القضايا عالقة ولتصبح الأزمة السياسية أحد أهم المخاطر التي تحدق بتجربتنا السياسية.
في النهاية وكما كان الشأن في رواية ليلة السنوات العشر للأديب محمد صالح الجابري عرف مسارنا الثوري نفس الكآبة الثورية التي عرفتها كل الثورات في كل بلدان العالم.وهذه الكآبة ناتجة عن غياب كتلة تاريخية قادرة على توحيد الصفوف لفائدة هذا المسار التاريخي وإعطائه برنامجا ورؤيا استراتجييه لبناء مجتمع جديد.
وهذه التحديات لازالت قائمة إلى حدّ اليوم ونجاح تجربتنا يمر عبر توحيد التونسيين حول رؤيا وتصور جامع لمستقبل مشروع الانتقال الديمقراطي .