أو فيها إضافة معلومة جديدة عنا لمحيطنا الدولي القريب والبعيد. وكأن الاحتجاج يختلف عما سبق أو يعنينا وحدنا دون غيرنا من مجمل الكون. وكأن التنويع والتكثير والتكثيف من النواح في خصوص الوضع هو الحل. في حين أن المطلوب يتمثل في النظر إلى مسائلنا بأكثر ما يمكن من العقلانية والتجرد والحكمة كشرط للتعامل معها بالتبصر والهدوء المطلوبين دون إضافة غوغاء لن تزيد إلا في تعقيدها. جاءت ظروف سميت ثورة أودت بحكم أقل ما يقال فيه أنه عجز عن الدفاع عن نفسه بل انهار من داخله أكثر مما سلط عليه من ضغوط من خارجه. ألم يكن السرياطي هو الذي أركب بن علي طائرة الوداع واعدا إياه بأن لا ينشغل، سيدعوه للعودة، و«جدت الحكاية على المرحوم»؟ ولما لم يحرك حزب المليوني تجمعي ساكنا، ففهم الجميع أنها حقيقة ثورة قبلها أهل البيت فما بالك بغيرهم. جاء الإسلام السياسي غازيا لبلد راح منه من كانوا يحكمونه بلا رقيب ولا حدود طيلة العقود. وتملك بكل شيء لأن كل شيء ملقى على قارعة الطريق وهو الطرف الوحيد المنظم. أدهى وأمر، هرب إليه الكثير من حزب السلطة ولا يزالون. وما رفع عبير موسي «ديقاج» في وجه الغرياني أمينها العام إلا وعيا كبيرا من طرفها بالكارثة، لأن هناك كثيرا من «الواقعيين» من اصدقائها القدامى الذين اعتبروا أن مصيرهم مرتبط بمن «جمع ما بعثره بن علي».
أي أن المسألة ليست بالمرة مرتبطة بإسلام سياسي أو غيره وإنما بانهيار منظومة لم تجد من يمكن أن يخلفها، سواء من شرفاء الدساترة أو من غيرهم من الوطنيين الذين رغم عدم مشاركتهم حكم بورقيبة وبن علي كانوا مع الدولة الوطنية والإصلاح. وكانت تجربة نداء تونس الرائدة، الحزب الوحيد إلى حد الآن الذي هزم انتخابيا الإسلام السياسي، أما بالنسبة للبقية فالأمر معلق إلى أن ما بعد أسبار الآراء وأربع سنوات انتظار. كان الحل الممكن «إسلام سياسي وراء النداء» و»قيادة سياسية للبلاد بيد الوطنيين». لكنقيادة النداء لم تكن في المستوى المطلوب وأضاعت الفرصة على البلاد. وذهب الجميع إلى انتخابات 2019 منقسمين فكانت انتخابات الانقسام. لكن تلك هي التجربة العويصة، لبناء قيادة وطنية جديدة بعد انهيار القديمة، ومحاولة أولى نجحت انتخابيا لكنها خسرت سياسيا. وما هو المقترح على التونسيين الآن؟ توجه سياسي يرشح نفسه للقيادة بمفرده دون تقييم القديم الذي ينتسب إليه واستيعاب الجديد الذي لا يعترف به. الخيار الوحيد لإنجاح هذه الفرضية هو الدكتاتورية والتي انطلقت بالجحافل الفايسبوكية بنفس الكيفية التي تعامل بها ولايزال الإسلامي السياسي بكل فروعه. أي كل العملية السياسية التي يقع التعامل بها بكل أنواع التهويل هي ادعاء بناء قيادة سياسية وطنية جديدة للبلاد. عملية تسير الآن بشكل مغلوط. لكن المطلوب يبقى تصحيحها وليس البكاء في شأنها. والطرق في خصوص ذلك متوفرة. ولن يكون أي خيار عنها، وإنما هناك شيء من إضاعة الوقت لابد من التسريع بالحد منها. لأن كل تقدم، ولو جزئي في البداية، قادر على إعادة بعث روح التفاؤل والأمل كمدخل هام للإصلاح الذي ينتظره المواطن. لأن المسألة السياسية على أهميتها ليست غاية في حد ذاتها وإنما هي أدوات لخدمة الناس.
ومظاهر الإحباط التي يعيشها المجتمع متأتية من التأخر المشط في توفير الحلول للمسائل التي انتظرت أكثر من طاقة البشر على تحمل الانتظار، خاصة عندما يكون ذلك دون أفق. أن يكون هناك تساؤل وانشغال وطني فذلك مشروع. أما أن يتحول ذلك إلى ارتباك جماعي فهو بداية الكارثة. هناك تساؤل وانشغال مشروع حول ما إذا كان غياب السياسي هو الذي يعرقل الاصلاح الوطني أم أن استحالة الإصلاح الوطني هي التي تزيد في تعقيد الأمر السياسي. وهو تساؤل وجيه. والجواب الأولي عن ذلك أن الإصلاح السياسي والإصلاح الوطني متلازمان. ومواصلة الجواب تتمثل في كون كل واحد من أنواع الحل ليس إما كاملا مائة بالمائة أو لا يكون. التصور السليم يقتضي التدرج والتفاعل بين المستويين، خطوة أولى للسياسي تأتي بنتيجة إصلاحية أولية، تتبعها خطوة ثناية للسياسي تمكن من التقدم بدرجة ثانية في الشأن الوطني العام. فمسألة الحوار الوطني مثلا، بالإمكان أن تكون خطوة سياسية أولى، ولو منقوصة، أي دون المشاركة الكاملة والشاملة التي ينادي بها الكثير. ألم ينطلق الحوار الوطني لسنة 2013 دون النهضة والمؤتمر في البداية، ثم التحقت النهضة، قبل أن يلتحق المرزوقي، دون المؤتمر؟ أكثر من ذلك. يمكن لمبادرة الحوار الحالية أن تتم دون مشاركة مؤسسات الدولة، رئاسة وبرلمان وحكومة، لتبلور خطة وطنية، تعرض على الجميع، بإمكانها أن تتحول إلى أرضية وطنية، صالحة إما للضغط الديمقراطي أو للاستعداد الانتخابي أو الاثنين معا. وفي خصوص الخطة الإصلاحية نفسها، وبقطع النظر عن توفر وجمع الحكماء والعقلاء والخبراء، أليست ممكنة بقدر ما هي عاجلة؟ ولا يعني أمر الاستعجال هنا أي منحى للمسكنات. حيث أن كل برنامج وطني عاجل فاقد لأي أفق مستقبلي سيكون فاشلا.
لكن هناك أرضية جدية متوفرة لعقد وطني، يبني على مبادئ الدستور، ويقر بعلوية القانون وهيبة الدولة، ويوفر ألآليات الضرورية المتأكدة لعمل الدولة ومختلف مصالحها التجهيزية والخدماتية، وينجز «برنامج كرامة أدنى وعاجل» لفائدة الجهات والأحياء المفقرة والمهمشة، أي جملة من الظروف الإيجابية مدة ثلاثة سنوات، 2012و 2022 و2023، يخلق من الطمأنة ما يمكن من إعادة تشغيل آليات الإنتاج، الكفيل وحده ببداية استرجاع الدولة لعافيتها المالية ودفع التشغيل والتصدير، يكون ضمن هذه الخطة الأولية الاتفاق على الأجور بما يتماشى مع الأولويات الاجتماعية، دون أن يعني ذلك ضرب ديناميكية عودة الاقتصاد للاشتغال من جديد، مع الانطلاق في إصلاحات أكثر عمقا وتجذرا، في التعليم والصحة والإدارة والرقمنة وتجهيز غرب وجنوب البلاد بما تتطلبه حاجياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للانطلاق التنموي الذي يضعها على مدارات جديدة تقطع مع التهميش. العقد الوطني المطلوب ممكن والكل يتطلع إليه، لأن فيه فائدة للجميع خاصة عندما تتوفر ظروف القضاء العادل والاعلام المهني والمسؤول والشفافية والمحاسبة التي تحد من دور لوبيات الفساد المتربصة بكل اصلاح والتي لا تتصور دورا للدولة لا يصب في جيوب من يقف وراءها.
قد يحصل أن من يقوم بالمزيد في الدعاية بأن أمر تونس مستحيل لا يقصد في الواقع إلا أن ذلك الأمر مستحيل إذا لم يتحكم هو فيه كما يريد. فحذار من مثل هذه الرسائل المنزلة في قالب حقائق مسلم بها بينما هي حقيقة مفبركة لغايات في أنفس كثير من اليعاقيب.