للنشر والناشرين والعناوين المنشورة في جميع المجالات والاختصاصات .
ومن دور النشر التي ظهرت في الفترة الأخيرة والتي جلبت إليها الأنظار هي دار نظر لصاحبها الجامعي والناقد والناشط الثقافي عبد الكريم قابوس .
ولعل من ميزات «دار نظر» وعلى خلاف أغلبية دور النشر الموجودة في العاصمة فإن دار نظر ركزت الكثير من أنشطتها في مدينة نفطة في محاولة لإحياء التقاليد الفكرية لجهة الجريد .
وأول مؤلف تحصلت عليه من هذه الدار بعنوان «احتلال البلاد التونسية – 1881-1883» وهذا الكتاب هو عبارة على تقرير عسكري أعده ملازم في جيش الاحتلال الفرنسي بإشراف الفريق أول بولنجي «Boulanger» .وتكمن أهمية هذا التقرير في متابعته بصفة دقيقة لكل الأحداث التي صاحبت دخول الاستعمار إلى بلادنا .ولا يقف هذا التقرير عند المتابعة والتدقيق بل يتجاوزهما إلى التحليل والقراءة.
وهو يشير من خلال ذلك إلى الوضع السياسي والاقتصادي والأزمات التي كانت تعيشها البلاد . كما وقف كذلك على تواطؤ بعض المسؤولين الكبار والبايات مع الاستعمار وخذلانهم للمقاومة الشعبية الكبرى التي عرفتها البلاد والتي حاولت التصدي بكل قواها للاستعمار .كما تناول هذا التقرير التنافس الكبير بين القوى الاستعمارية وخاصة ايطاليا وفرنسا للظفر ببلادنا .ولم ينس هذا التقرير التوقف عند موقف الباب العالي الذي ترك - في نهاية الأمر - الباب مفتوحا للاستعمار الفرنسي للانتصاب في بلادنا ولم يقدم الدعم العسكري المنتظر للإيالة التونسية في مواجهة القوات الغازية.
إذن لهذا التقرير أهمية كبيرة في تسليط الأضواء على هذه الفترة العصيبة في تاريخنا وفقدان بلادنا لحريتها وانتصاب الحماية .ولم يقف هذا التقرير على الوصف الدقيق للأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بل تجاوزه إلى تحليل هذا الواقع وسبر أغواره الدفينة .
كما تكمن أهمية هذا الكتاب في انه تمت ترجمته وتحقيقه من طرف الوزير السابق والجامعي صالح البكاري الذي قام بعمل كبير لتوضيح وتدقيق عديد المعطيات التي كان يشوبها بعض الغموض .كما كانت الترجمة سلسلة وأنيقة مما أضفى عليها الكثير من الجمالية .وأضاف الدكتور صالح البكاري تقديما مهما ساهم في التعريف بهاته الفترة وفهم أهم تحدياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
وقد ختم الأستاذ صالح البكاري هذا التقديم بكلمات مهمة تعطينا فكرة عن الأوضاع التي كانت سائدة في تلك الفترة وروح المقاومة التي ميزت التونسيين في تلك الأيام .
يقول المحقق» والخلاصة أن هذا التقرير رغم ظاهره المقتضب واستعراضه السريع لكثير من المعطيات ،فإن في فحصه والتعمق في مضمونه المتنوع مادة يمكن اغناؤها بالوثائق الوفيرة التي كشف عنها الغطاء ،ما نشر منها وما هو محفوظ حتى الآن لرسم صورة كاملة عن أحوال البلاد التونسية وما ولدته من مقاومين تصدوا ببسالة لما حاق بها رغم ظروفهم الذاتية والموضوعية غير المساعدة على تحقيق النصر في وجه تغلغل الاستعمار الاستيطاني الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي مازالت بعض الأوساط الخارجية تنوه بمزاياه والإيمان بتفوق الأجناس والثقافات بعضها على بعض إلى حدّ الاقتناع بحتمية صراع الحضارات « (ص 18) .ويشير الأستاذ البكاري الى أن شعلة الرفض والثورة على المستعمر لم تخب ولم تنطفئ مع تركيز الحماية بل تواصلت إلى أن تمكنت بلادنا من الحصول على استقلالها والخروج من براثن الاستعمار .ويؤكد في خاتمة هذا التقديم «وإن التونسيين الذين لم يستسلموا إلا مكرهين ،قد حرصوا باستمرار على الرعاية والصيانة لدعم مناعتها واتخاذ الموقع المناسب لها بين الدول ، هي العهدة التي على أبنائها وبناتها الالتزام بها « (ص 19) .
وقراءة هذا التقرير مهمة ولها دلالات كبرى في تاريخ بلادنا . وتعطينا هذه القراءة الأسباب الحقيقية لدخول الاستعمار وهيمنته على بلادنا .
ويشير التقرير إلى الأزمة الاقتصادية والمالية والتي ساهمت في تطور الفساد وكانت وراء إفلاس الدولة.»أما عن الوضع المالي ،حسب تقرير الجيش الفرنسي ،فكان مؤسفا.وكان النصيب الأوفر من المداخيل يسلم إلى اللجان المكلفة بحماية مصالح دائني الدولة (الكوميسيون المالي المشرف على استخلاص ديون الأجانب على البلاد التونسية ).والضرائب الأخرى المشطة تبقى في أغلب الأحيان بأيدي أعوان الجباية ولا يصل منها الا النزر القليل إلى الخزينة التونسية .وهنالك تصبح ملكا للباي يتصرف فيها تقريبا على هواه معوضا عن تخصيصها لحاجات البلاد المتعددة أو لتطوير الصناعة والتجارة بالإيالة «(ص34-35) .
ويشير التقرير بوضوح إلى اطلاق أيادي الدولة لجمع الضرائب المشطة وإثقال كاهل السكان مما تسبب في ثورات وانتفاضات ضد الدولة المركزية كالتي قادها علي ابن غذاهم.فالناس « أفلسهم القياد الشرهون المتصرفون دون رقابة واستغلهم بإذلال اليهود المقيمون بالإيالة والذين كان لهم ، بفضل أموالهم حماة نافذون من بين السلطات التونسية ، ويجدون أنفسهم أكثر من ذلك مرهقين بضرائب ساحقة تستخلص بكيفية مقيتة من غير أن يكون بإمكان دافعيها أن يجدوا مساندة أو نجدة لدى محكمة نزيهة منصفة « (ص 33).
وإلى جانب الأزمة المالية وإثقال السكان بالضرائب يشير التقرير إلى الوضع الأمني المتردي وتراجع سيطرة الدولة على البلاد مما ساهم في تفشي الإجرام والسلب في كافة أنحاء البلاد .ويشير التقرير»ولنضف إلى ذلك الصراعات في ما بين القبائل والأتاوات التي يستخلصها الرّحل بالقوة من المجموعات المستقرة وانخرام امن الطرقات ،وإفلات بعض محترفي القتل في العقاب والذين يحظون أحيانا بإعجاب الجميع ، ولجوء الأشرار الجزائريين إلى البلاد التونسية وستكون لنا فكرة عن الحيرة والغضب والبلبلة السائدة في الإيالة يومئذ»(ص33)
كما توقف هذا التقرير عند تراجع الدولة وضعف مؤسساتها وخاصة عدم استقرار جهازها الإداري والذي لعب دورا كبيرا في رأيي في نجاح الهيمنة الاستعمارية على بلادنا .فيشير إلى أن «التنظيم الإداري بالبلاد مبدئيا كما هو الآن ،ولكنه في التطبيق مشوب بعديد العيوب.فقيادات القبائل تنتقل في كل لحظة إلى أيد جديدة حسب رغبة الباي أو حظي.وهذه التغييرات لا تتم دون التسبب في أضرار كبيرة على مصالح الدولة ومصالح الخواص. وكل موظف يتولى سلطة لا يكون له من حرص غير الزيادة في ثروته الشخصية قبل زوال النعمة والذي يراه حتميا .ومثل هذا الواقع كان ابعد من أن ينمي لدى الأهليين روح الطاعة والاحترام الواجبين للسلطة. بل انه كان أتى ثماره إذ عبرت قبائل الإيالة عديد المرات عن رغبتها الجامحة في التنصل من أحكام ملكهم ونزواته المدمرة «(ص34)
إلى جانب هذه الأزمات المالية والاقتصادية وأجهزة الدولة أشار هذا التقرير إلى خيانة نظام الحكم ورفض رفع سلاح المقاومة .ويشير التقرير إلى موقف محمد الصادق باي «بدل تشجيعه (لأخيه علي باي ) على المقاومة يأمره بالتراجع أمام القوات الفرنسية والوقوف إزاءها في حياد تام «وسرعان ما عرف هذا الحدث في كل إرجاء الإيالة وتسبب قي اكبر سخط .وعيب علي الباي لخيانته لبلاده ورغبته في ترك رعاياه تحت رحمة الفرنسيين»(ص84).
والى جانب الأوضاع الداخلية أشار التقرير العسكري إلى التنافس بين القوى الاستعمارية من اجل بسط نفوذها على بلادنا وبصفة خاصة بين فرنسا وايطاليا آنذاك.
ويؤكد «كان من المهم أخيرا بالنسبة إلى شرفنا الوطني ولإعادة بسط سلطتنا بالمشرق ألا ندع غيرنا يحل محلنا في بلد كان يعبر حتى ذلك الحين عن أكبر احترام للأمّة الفرنسية الذي تجسم في نظر سكانه في الشجاعة والذكاء والسخاء والقوة «(ص70).
وبالرغم من هذه الأوضاع الرديئة وخيانة الطبقة الحاكمة فقد قدم الأهالي صمودا بطوليا ومقاومة عنيفة في مجابهة التدخل الاستعماري .وهذا التقرير سيقدم معطيات هامة حول ملحمة الصمود البطولي في كل جهات البلاد بالرغم من ضعف الإمكانيات وانعدامها .ففي ملحمة الصمود الشعبي في صفاقس ضد دخول القوات الغازية يشير التقرير «بدا القصف المنتظم للمدينة .وثبت كل سكان صفاقس قي البداية بشيء من الحماس .وكانوا يرممون في الليل الأضرار التي تلحق بحيطانهم في النهار ويعيدون تركيب المدافع التي تفككها قذائفها»(ص99).
يشكل هذا التقرير الذي قام بترجمته وتحقيقه الأستاذ صالح البكاري وثيقة تاريخية مهمة ويمكننا من الوقوف على الأسباب العميقة لسقوط الدولة الحسينية وعدم قدرتها على الدفاع على الوطن أمام التغلغل الاستعماري .وقد أكد هذا التقرير على الأسباب الداخلية لهذه الهزيمة أمام الاستعمار .فالأزمة المالية الخانقة وفساد السلطة وغياب الأمن وضعف مؤسسات الدولة ساهمت مساهمة كبيرة في هذا السقوط المدوي للدولة ودخول الاستعمار إلى بلادنا .
ولئن ولى عصر الاستعمار المباشر فإن الأوضاع الحالية التي تمر بها بلادنا والأزمات المتعددة التي تنخر الدولة ومؤسساتها قد تضع سيادتنا الوطنية على المحك.
وما أشبه اليوم بالبارحة !