فعلى المستوى السياسي ولئن خطونا خطوات هامة في مجال التحول الديمقراطي -عرفت بلادنا وبسرعة كبيرة عديد الأزمات السياسية.ولعل أولى هذه الأزمات عجزنا على إتمام المؤسسات الدستورية مثل المحكمة الدستورية.ثم تحول هذا العجز إلى تراجع في دور الأحزاب السياسية وقدرتها على أن تلعب الدور الوسطي الذي عهدت لها به الأنظمة الديمقراطية .
لم تتوقف الأزمة السياسية عند هذا الحدّ بل تجاوزته لتمس النظام السياسي التمثيلي ولتنخرط بلادنا في الأزمة العامة التي تدك أركان الأنظمة الديمقراطية على المستوى العالمي ولتفتح المجال واسعا أمام تنامي القوى الشعبوية .
والى جانب هذه الأزمات السياسية المتعددة تعيش بلادنا على وقع الأزمات الاقتصادية المركبة والمعقدة والتي زادت حدتها في الآونة الأخيرة .وقد أكدت على تزامن ثلاث أزمات كبرى .الأزمة الأولى هيكلية وانطلقت مع أزمة منوال التنمية منذ نهاية القرن الماضي والتي تتطلب تغييرا جذريا في ديناميكية التنمية والقطاعات الكبرى الحاملة لها .وإلى حدّ الآن لم يؤد الخطاب الداعي إلى ضرورة تغيير نمط التنمية إلى فعل اقتصادي واستراتيجيات وسياسات قادرة على فتح آفاق جديدة للتنمية في بلادنا .
ولم تتوقف الأزمة على الجانب الهيكلي بل انضاف إليها جانب ظرفي مهم اثر الثورة مع انحراف التوازنات الاقتصادية الكبرى والعجز الكبير للمالية العمومية وللتجارة الخارجية.وقد نتج عن هذا التراجع الكبير والخطير في التوازنات الكبرى تزايد خطير لقدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها وتعهداتها وقد تقود إلى أزمة مديونية .
انضافت إلى الأزمتين أزمة ثالثة ناتجة عن الانعكاسات الاقتصادية للجائحة الصحية لتعرف بلادنا خلال هذه السنة انكماشا اقتصاديا لم تعرفه في تاريخها الحديث .
وقد تزامنت هذه الأزمات الثلاث لتنتج وضعا اقتصاديا مخيفا يهدد بالانفجار ولم يسلم الوضع الاجتماعي من هذه الأزمات لتعرف بلادنا ظهور وتطور عديد الحركات الاجتماعية للمطالبة بتحقيق الأهداف التي دافع عنها المتظاهرون في الثورة من شغل ونهاية التهميش الاجتماعي والجهوي .وقد عجزت أغلب حكومات بعد الثورة عن إيجاد أجوبة لهذه التحديات الاجتماعية الكبرى لتبقى تجتر الحلول والأجوبة القديمة والتي فقدت قدرتها على إعادة بريق الأمل لأجيال كبيرة من المهمشين .
انضافت إلى هذه الأزمات المتعددة هذه الجائحة الصحية الخطيرة لتزيد الوضع قتامة وتعمق من الجراح التي نعاني منها منذ سنوات .فكانت هذه الجائحة وراء تزايد الأزمة الاقتصادية وارتفاع الغليان الاجتماعي .
كانت هذه الأزمات وراء تزايد الإحباط وفقدان الأمل في قدرتنا على تجاوز المصاعب ورفع التحديات .
ومما زاد الطين بلة عجز مؤسسات الدولة على تجاوز الأزمات وفتح آفاق جديدة لتجربتنا السياسية والاجتماعية .وكان هذا العجز وراء بداية تفكك مؤسسات الدولة الوطنية وانحسارها أمام حركة المجتمع وعجزها على تأطيرها وتنظيمها .
ويمكن أن نشير إلى مظاهر عديدة لهذا التفكك والتراجع لمؤسسات الدولة .المستوى الأول يهم المؤسسات السياسية والتي أصابها الكثير من الوهن والتي فقدت مخزونا كبير للثقة عند الناس.
فالمؤسسة التشريعية انغمست في الخلافات والصراعات الطاحنة بين الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية مما حاد بها عن دورها التشريعي وقلص مصداقيتها عند عدد كبير من المواطنين .
كما أصاب هذا التراجع وهذا الانحسار المؤسسة التنفيذية وبصفة خاصة مؤسسة الحكومة المسؤولة على تطبيق السياسات وتغيير الأوضاع نحو الأفضل .فقد عجزت الحكومات والتوافقات السياسية التي جلبتها في صياغة وبناء مشروع مجتمعي قادر على توحيد التونسيين وعلى إعادة بناء العلاقة الجمعية والمشترك .
فظلت أغلب الحكومات تتراوح في حلول ترقيعية وقصيرة المدى دون البدء في التصورات الكبرى والإصلاحات التي تتطلبها إعادة بناء العد الاجتماعي .
كما شمل الانحسار والتفكك المؤسسة القضائية حيث عجزت عن القيام بإصلاح حقيقي لإعادة الثقة بينها وبين المواطنين والتسريع في إجراءات التقاضي وشفافيتها .وقد زادت التصريحات الأخيرة والتهم التي يكيلها اكبر المسؤولين في القضاء الى بعضهم البعض على الملإ من الأزمة التي تعيشها هذه المؤسسة ومن فقدان الثقة فيها عند العموم .
كما دخلت المؤسسات الاقتصادية هذه المرحلة من الانحسار والتفكك ولم تبق خارجه.فالخلاف العلني بين البنك المركزي والحكومة حول أولويات قوانين المالية وطرق تمويلها تشير إلى هذا التضارب بين هذه المؤسسات والذي لم نتعود عليه في تاريخنا الحديث .
يمكن كذلك أن نشير إلى مؤسسات الدولة على المستوى الجهوي والمحلي والتي فقدت الكثير من مصداقيتها لعجزها عن توفير الحلول الضرورية لإنهاء التهميش الاجتماعي والجهوي .فتوالت الاعتصامات في كل المناطق والتي عطلت آلة الإنتاج مما زاد في حدة الأزمة الاقتصادية التي نعيش على وقعها .وهذه الاحتجاجات والحركات الاجتماعية كانت وراء ظهور تنسيقيات جهوية أفرغت الأحزاب والمنظمات الاجتماعية لتفرض آراءها وقراراتها على السلطة التنفيذية والتي لم يبق لها إلا القبول بالرغم من عدم واقعيتها في بعض الأحيان .
يمكن أن نضيف إلى هذه المظاهر الهامة انحسار الدولة وتراجع مصداقيتها وتفكك البعض من أوصالها .وهذا التراجع الذي وصلت إليه مؤسسات الدولة اليوم يثير الكثير من المخاوف على مستقبل الرابط الجمعي ويفتح المجال واسعا أمام توسع اللوبيات وانفرادهم بالدولة ومحاولة السيطرة علت مؤسساتها وتحويلها لخدمة مصالحهم .
إن هذه الأزمة الخانقة للدولة ولمؤسساتها تتطلب في رأيي وقفة حازمة لكل الفاعلين السياسيين والمنظمات الاجتماعية والمجتمع المدني لحمايتها والدفاع على فعاليتها ومصداقيتها .وهذا يمر عبر تنظيم الحوار الاقتصادي والاجتماعي الوطني الذي سيمكننا من تحديد الأولويات لإعادة بناء المشترك الجمعي والانطلاق في تجربة تاريخية جديدة.