منبــــر: ما الذي يهم التونسيين من أمر النهضة؟

بالنسبة للشباب الذي لم يعش التطورات السابقة للحركات السياسية التي تنسب نفسها للدين الإسلامي فإن ظروف نشأتها اختلفت كثيرا حسب الزمان والمكان.

بادئ ذي بدء لم تكن مثل تلك التيارات غائبة عما سمي إجمالا «نهضة القرن التاسع عشر» والتي كانت صلبها تيارات متعددة ومتنوعة بما فيه السلفية منها والتي كان طرحها آنذاك بأن التقدم لا يتمثل في الاعتبار بمكاسب الغرب وإنما بما «أضاعه» المسلمون على أنفسهم من عدم التمسك بما جاء به «السلف الصالح».
كما كانت هناك فترة تاريخية ثانية هامة جدا وهي انهيار الخلافة العثمانية وما طرح من ضرورة «التدارك السياسي للسقوط» كما جاءت بذلك حركة «الإخوان المسلمين».

لكن حركات التحرر من الاستعمار ومن الأنظمة التقليدية المهترئة اتخذت عموما منحى آخر، خاصة في شمال إفريقيا، واعتبرت أن لا خروج من هيمنة الغرب الاستعماري الا باستعمال نفس الأسلحة التي مكنت ذلك الغرب المنتصر من قلب كل موازين القوى لصالحه عل حساب شعوب المستعمرات.

وهكذا طوال أربعين سنة على الأقل، من 1935 إلى 1975، أي مدة حركة التحرر الوطني والاحراز على الاستقلال وبناء الدولة الحديثة، لم نكن نكاد نسمع، في تونس على الأقل، بشيء اسمه «اسلام سياسي»، إلى حدود «نكسة 67» والانهزام الفظيع للعرب في حرب حزيران وما دب لدى الرأي العام العربي من شك جارف في قدرة الأنظمة على التصدي للاحتلال والاستعمار، خاصة وأن تلك الأنظمة استعملت القمع لفرض الوحدة الوطنية بالقوة، أي عمليا قمع كل نفس نقدي أو معارض، تلك «الوحدة» التي اعتبرتها الأنظمة ضرورية لمواجهة العدو.

لكن الشعوب تحصلت في النهاية على القمع والهزيمة معا. وبالإضافة لكل تلك الأجواء كانت هناك خيبة أمل لدى المجتمعات في خصوص عدم قدرة مختلف الأنظمة على تحقيق الرفاه الاجتماعي، بل ما بدأ يبرز ويتطور، أولا باحتشام قبل أن يستفحل، تمثل في توزيع غير عادل للثورة وترعرع طبقة من المستكرشين.

ولم تقف الأسباب الأولى للظهور والصعود للمد الاسلاموي عند هذا الحد. إذا في الأثناء تطورت قوى اشتراكية وتقدمية كبرى وكونية، ليست مناهضة فقط لمختلف مظاهر وأشكال الاستعمار، وإنما كذلك للأشكال التقليدية في الحكم ولهيمنة البورجوازيات الطفيلية، كما كانت حاملة أيضا لمشروع مساعدة كل شعوب العالم على التحرر وتقرير المصير.
وهو ما لفت شديد الانتباه لأمريكا واليمين الأوروبي بأنواعه وأيضا العربية السعودية والخليج. ومنذ تلك اللحظة وقع تحويل «الإسلام السياسي» إلى «مشروع»، يقع تقديمه كبديل، أولا في مستوى كل بلد على حدة، مثل مصر وتونس والجزائر وسوريا والسودان وإيران وغيرها، وفي وقت لاحق ك»مشروع عابر للقارات»، يشتغل على الجيوسياسة.

رد فعل الأنظمة، كما كان الحال في تونس، كان في منتهى الغباوة، أولا بإعطاء نوع من الدفع الأولي للحركات الاسلاموية، بأشكال مختلفة، لمقاومة المد التقدمي واليساري والاشتراكي، وثانيا بمزيد التضييق على الحريات، مما حرم المجتمع من تطوير آليات المناعة الذاتية.

في نفس الوقت وفي خصوص التيار الاسلاموي التونسي تحديدا، فإنه لم يكتف باحتلال المساجد، بل كان حاضرا في النقابات الطلابية والمنظمات العمالية ورابطة حقوق الانسان ونقابات المحامين والقضاة وكل ما يسمح له بالانتشار المجتمعي وكسب المواقع، باستثناء «جمعية النساء الديمقراطيات»!

بل أبعد من ذلك، عندما تفطنت جموع من التجمع الدستوري، التي شاركت في العملية القمعية ضد الاسلامويين، بأن هؤلاء لم يقع القضاء عليهم كما كان متوقعا، خافت على نفسها وقرأت للمستقبل ألف حساب وانجر عن ذلك تنافذ (osmose) بين التجمع والنهضة، آل في النهاية إلى بدايات بحث عن حلول «مشتركة»، بما فيه حول صخر الماطري ودولة قطر وغيرها.

وهو ما يعني أن الاسلام السياسي التونسي بقي دوما يتأرجح بين: حركة الإخوان المسلمين مصرية المنشأ، والوهابية السعودية – الخليجية، وحركات الترابي في السودان والخميني في إيران، مع المتابعة المنتبهة للكيفية التي يتطور بها المجتمع التونسي، عن طريق المطلب الاجتماعي والديمقراطي، كما اختلطت شؤونها بما طلب منها من ضمانات تم تقديمها للأنظمة والحكومات الأمريكية والأوروبية، فيما واكب ذلك التيار الصعود القوي للسلفية والجهادية بارتباط بالحرب في أفغانستان ثم بعد ذلك بسقوط المعسكر الاشتراكي.

كل هذه الأمواج المتلاطمة التي أخذت الإسلام السياسي التونسي 'إلى' وأعادته 'من' مختلف المآرب والمشارب، جعلت في النهاية أن ما تبقى لدى حركة النهضة هو فقط أنها «ماكينة»، قابلة لكل أنواع التفاوض. وقد رأينا في تونس على امتداد العشر سنوات لما بعد الثورة كيف تتغير المواقف بمائة وثمانين درجة كل يوم.
بالإضافة إلى أنه، بعد النجاح في انتخابات 2011، تحولت النهضة إلى «ماكينة سلطة»، أي هذا المرة مستعدة للتفاوض في كل شيء إلا إبعادها عن السلطة.

وهي، أي النهضة، بهذه الصغة وهذا التمشي، أضاعت عنصر النجاح الوحيد بالنسبة لها، ألا وهو، أولا، «الأخذ والتعلم والاعتبار من المدرسة التونسية» كتجربة وطنية تقدمية رائدة، ثانيا، «التخلي عن فكرة أن «الإسلام السياسي» يمكن أن يكون يوما ما رائدا وقياديا في المجتمع التونسي»، والاكتفاء، عوضا عن ذلك، بالتواجد والتأثير بقدر الإمكان، وبما يتماشى مع الخيار التونسي العميق لصالح الدولة المدنية والانفتاح على الكون والحق في التجديد والابداع دون مكبلات واحترام حقوق الانسان بالكامل وتجريم التكفير والضمان الفعلي لحرية الضمير والمعتقد وترك المساجد للعبادة والقطع مع كل أنواع واشكال السلفية والتخلي عن مقولة «فصل الدعوي عن السياسي» باعتبار أن «الدعوي» ليس بموضوع اصلا بالنسبة لكل ما هو «سياسي».

وهكذا عوض أن تسعى النهضة ومجمل الإسلام السياسي إلى «الانخراط في مدرسة الإصلاح الوطني التونسي» فإنها سعت، بجهل فظيع للمتطلبات التاريخية والاجتماعية والحضارية والثقافية العميقة، إلى جر تونس نحو المجال الإسلاموي.

وأمام التصدي المجتمعي القوي والمستمر لهذا المنحى الغريب، تحولت مجمل العلاقة بين الإسلام السياسي والمجتمع إلى أزمة شائكة. وإذن فإن توقف كل ما يدور الآن من حوارات صلب النهضة عند مسألة من سيكون الرئيس القادم، سيبقى شأنا داخليا. لأن ما يهم التونسيين هو «هل ستقلع النهضة جديا ونهائيا عن اعتبار نفسها وصية على الإسلام بينما الإسلام ملك مشاع بين كل التونسيين والإسلام ساكن في قلوب الناس وتسهر عليه وتحميه وترعاه الدولة المدنية؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115