بين الحكومة والبنك المركزي حل قانون المالية التعديلي لسنة 2020.وأثار هذا الخلاف الكثير من الجدل وشكل مفاجأة كبيرة للمتابعين للشأن الاقتصادي لا فقط في بلادنا بل كذلك على المستوى العالمي .
وأسباب هذه المفاجأة عديدة أولها أن الخلافات وحتى التناقضات في المجال الاقتصادي لا تحل ولا تدار في الفضاء العام بل تتم نقاشها وإيجاد الحلول لها بين المختصين والخبراء بعيدا عن الضوضاء والمزايدات الكلامية .
والسبب الثاني لهذه المفاجأة يعود إلى أن الخلافات في أعلى مؤسسات الدولة ليست من تقاليد الدولة التونسية فقد حافظت المؤسسات الاقتصادية للدولة التونسية على قدر كبير من التناسق والتكامل منذ بداياتها مع الاستقلال إلى يومنا هذا .وبالتالي ظهورها إلى العلن اليوم شكل مفاجأة كبيرة لكل متابعي الشأن الوطني .
وقد طرحت هذه الخلافات قضية محورية في التفكير والممارسة الاقتصادية وهي قضية التكامل والتجانس بين السياسات الاقتصادية وخاصة السياسات المالية والنقدية . وقد أشارت أغلب النظريات الاقتصادية الى أهمية هذا التكامل والتناسق واعتبرتها شرطا أساسيا لفاعلية السياسات الاقتصادية وقدرتها على تحقيق أهداف النمو والتشغيل .
ولو نعود الى السياسات الاقتصادية في اغلب بلدان العالم وعلى المستوى العالمي لما تقوم به المؤسسات الاقتصادية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي من تنسيق فإننا سنجد الكثير من التكامل والتناغم في كبرى المراحل الاقتصادية الكبرى .
فقد عرف العالم اثر الحرب العالمية الثانية مرحلتين اقتصاديتين وسياسيتين مختلفتين.المرحلة الأولى والتي انطلقت مباشرة اثر الحرب والتي يمكن أن نسميها مرحلة التوافق الاشتراكي الديمقراطي والتي عرفت تدخلا كبيرا للدولة في السياسة الاقتصادية .وقد قامت السياسات الاقتصادية في هذه الفترة على مبدأين مهمين وهما التوسع والمرونة.فكانت السياسية المالية للدولة تسعى من خلال التوسع إلى القيام باستثمارات كبرى من اجل إعادة بناء الاقتصاديات التي حطمتها الحرب ثم من أجل تحديث اغلب البلدان الرأسمالية والدخول في مرحلة الاستهلاك الشامل (consommation de masse) .
وقد اتخذت السياسات النقدية نفس المنحى ودعمت هذا التوجه التوسعي من خلال التخفيض في نسب الفائدة ودعم تمويل الاستثمار للدولة وللقطاع الخاص .
وفي نفس الوقت اعتمدت السياسات الاقتصادية مبدأ المرونة حيث لا تتوانى الدول عن التراجع في المنحى التوسعي في مراحل ظهور التضخم وتطبيق نوع من التشدد إلى أن تتراجع المؤشرات التضخمية لتعود السياسات الاقتصادية إلى منحاها التوسعي .
لقد ساهمت السياسات الاقتصادية بمبادئ التوسع والمرونة في النجاحات الاقتصادية التي عرفها العالم اثر الحرب العالمية الثانية وكانت وراء الفترة الذهبية للنمو التي عرفتها دولة الرفاه إلى حدود منتصف سبعينات القرن الماضي .
إلا أن الأزمات الاقتصادية التي بدأ يشهدها العالم منذ تلك الفترة والتنامي الكبير للبطالة والتضخم كانا وراء تغيير كبير لمبادئ السياسات الاقتصادية في أغلب بلدان العالم . وقد دخل العالم منذ بداية التسعينات مرحلة جديدة يمكن أن نسميها بالتوافق النيوليبرالي وستسعى الإصلاحات الاقتصادية التي سيتم تطبيقها إلى ضبط مبادئ جديدة ترتكز على التشدد والحزم .
وسيمس التشدد السياسات المالية حيث ستعمل كل دول العالم على مسك توازناتها المالية الكبرى والتقليص بطريقة كبيرة من عجز الماليات العمومية .وفي نفس الوقت اتجهت كذلك السياسات النقدية نحو التشدد من أجل إيقاف التضخم . وقد انطلق هذا التحول الكبير في بداية ثمانينات القرن الماضي مع الثورة النيوليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية ليشمل كل بلدان العالم وليصبح أساس التوافق الاقتصادي العالمي الجديد.
وإلى جانب مبدإ التشدد فقد صاحبه مبدأ الحزم ورفض التغييرات والمرونة.فكانت السياسات الاقتصادية صارمة لا تقبل التراجع أو التغيير .
وهذه الثورة النيوليبرالية والمحافظة ستعقبها ثورة جديدة إثر أزمة 2008 و2009 والتي ستتأكد مع الجائحة.وابرز سمات هذه المرحلة الجديدة هي التخفيض والتراجع على مستوى التشدد للسياسات الاقتصادية والعودة كذلك إلى جانب كبير من المرونة لدعم النشاط الاقتصادي وحماية الاقتصاد والرابط الاجتماعي من الانهيار
لقد عرفت السياسات الاقتصادية ثلاثة مراحل وثورات كبرى على المستوى العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .والملاحظة الأساسية التي يمكن الخروج بها من هذه القراءة أن السياسات الاقتصادية - وبالرغم من التحولات التي عرفتها - قد حافظت على نسبة كبيرة من التكامل والتناسق والتناغم .
وبالرغم من التحولات والإصلاحات الكبرى التي عرفتها المؤسسات المالية والاقتصادية فقد حافظت على مبدإ التناسق والتكامل .فاستقلالية البنوك المركزية التي عرفها العالم والتي أصبحت القاعدة منذ بداية تسعينات القرن الماضي لم تمنع ولم تصبح حاجزا أمام هذا التكامل والتناغم بين السياسات المالية والنقدية .فلم تختف أي من قيادات البنوك المركزية في العالم وراء الاستقلالية لرفض التنسيق الضروري مع الحكومات.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وعلى ضوء الخلافات بين الحكومة والبنك المركزي، أين نحن من هذا التنسيق والتناغم والتكامل بين السياسات الاقتصادية وبصفة خاصة بين السياسة المالية والنقدية ؟
في رأيي هذا الاختلاف هو نتيجة تراجع التنسيق والتكامل بين السياستين المالية والنقدية والذي بدا منذ بداية 2017 ليتعمق بعد دلك ولتكون نتيجته الخلاف المعلن بين الحكومة والبنك المركزي في الأسابيع الأخيرة .
ولو نعود إلى السياسات الاقتصادية في بلادنا في علاقة بمسألة التناسق في السنوات الأخيرة يمكن لنا أن نبرز ثلاث محطات أو مراحل كبرى .
المرحلة الأولى تمتد من بداية التسعينات إلى انطلاق الثورة حيث انخرطت بلادنا في التوافق السائد على المستوى العالمي . فكان التشدد والصرامة في ميزان سياساتنا الاقتصادية المالية والنقدية . وكان من نتائج هذا التوافق المحافظة على التوازنات الكبرى لاقتصادنا وبقاء التداين في مستوى محدود وتراجع التضخم .إلا أن هذا التوافق لم يساعد الاستثمارات الكبرى وخاصة تدخل الدولة في التنمية الجهوية لإيقاف التهميش في المناطق الداخلية ومحاربة البطالة .
المرحلة الثانية تمتد من الثورة إلى سنوات 2017 و2018 والتي ستشهد تغييرا كبيرا في المبادئ التي تقود السياسات الاقتصادية في بلادنا حيث سيغلب عليها المنحى التوسعي.فالسياسة المالية ستعرف تزايدا كبيرا في الاستثمارات العمومية من اجل المساهمة في دفع التنمية في الجهات المهمشة . كما عرفت السياسة النقدية نفس التوجه حيث تم التخفيض في نسب الفائدة المديرية وتدعيم البنك المركزي في تمويل الاقتصاد لحماية المؤسسات البنكية والمالية ودعم الاستثمار الخاص .
ولئن ساهمت هذه السياسات في دفع الاستثمار والمحافظة على نسق معين من النمو فإنها كانت وراء صعود كبير للتضخم.
ومن هنا سيكون التحول الكبير الذي ستشهده السياسات الاقتصادية والذي سيكون وراء الهوة بين السياسة النقدية والمالية والذي سيشعل فتيل الخلافات والصراعات بين الحكومة والبنك المركزي.في حين أن السياسة المالية ستحافظ منذ 2018 على منحاها التوسعي وستأخذ السياسات الاقتصادية توجها متشددا من خلال الترفيع المتواصل في نسب الفائدة المديرية والتخفيض في تدخل البنك المركزي في الاقتصاد.ولئن ساهمت هذه السياسات في التقليص من حدة التضخم ودعم العملة فإنها كانت وراء تراجع الاستثمار والانخرام الكبير للتوازنات الكبرى وتصاعد المديونية . وهنا لابد أن نشير إلى أن هذه التحولات الكبرى للسياسات الاقتصادية تمت بمباركة المؤسسات الدولية وفي بعض الأحيان بضغط منها .
إن غياب التناسق والتكامل بين السياسات المالية والنقدية والتراكمات خلال السنوات الأخيرة كان راء الهوة والاختلافات الكبيرة بين المؤسسات الاقتصادية والتي اندلعت شرارتها بمناسبة نقاش قانون المالية التعديلي بسنة 2020. وحتى لو حاولت المؤسستان التقليص من حدة الاختلافات فان الهوة لازالت كبيرة وتمس جوهر السياسات المالية والاقتصادية للدولة وضرورة إيجاد التنسيق والتكامل بينهما .
إن الصراع والخلافات بين البنك المركزي والحكومة الذي ظهر مؤخرا على اثر تقديم قانون المالية التكميلي لسنة 2020 لم يكن مفاجئا . فهو نتيجة حتمية لتراجع التكامل والتنسيق بين السياسات المالية والنقدية في السنوات الأخيرة . وبعد هذه الصراعات العلنية والتي لن تفيد المؤسستين لابد لنا من العودة إلى حوار هادئ ورصين حول التوجهات الكبرى لسياستنا الاقتصادية وأولوياتها.