أيّ إسلام نريـد في بلادنــــا ؟

لا زلنا نرى بجلاء هذا الانشطار الحاصل في بلادنا بين أصالة التديّن وارتباط غالبية التونسيين بموروثهم الإسلامي وفق أرضية تاريخية وجذورية قوامها التعايش

وقبول الآخر والحريّة الاعتقادية والاعتدال في كلّ شيء .. وبين الوافد على هذه الأرض من فكر وهابي متشدّد تكفيري عاينه التونسيون بإندهاش واستغراب ورفض في حراك غريب بأزياء مسقطة وأفكار مستهجنة وإرهاب واغتيال ودمغجة وجهاد ارتزاقي وجهاد نكاح وغير ذلك من غرائب وعجائب الجهلوت ....
والسؤال الكبير كيف السبيل للخلاص من هذا الانشطار واستعادة الوحدة الدينية التونسية في الثوابت ؟

صحيح أنّ عديد المظاهر من الإسلام الدخيل لم نعد نعاينها لكنّ لا يجب أن يخفى علينا كونها لا زالت مزروعة في ذهنيات العديد ممن استعملوا التقيّة والتخفّي بعد الحرب «المنقوصة» و«الشكلية» على الإرهاب ..
فاليوم نقف بين رؤيتـين للإسـلام فـي تونـس إحداهمـا قائمـة علـى الاجتهاد والاعتـدال والثانية علـى الإرهـاب والتطرّف..

نحن بين «رؤية وطنية» هشّة وضعيفة قائمة على الاجتهاد والتجديد والإصلاح وعلى التسامح و الحكمة... وبين رؤية مستوردة قائمة على التقليد والجمود والعنف والإرهاب تعمل على تشويه الإسلام باستغلاله والتجارة به و ممارسة القتل والعنف والتفجير ..
فبعد عشر سنوات من الثورة نعود لتقييم الشأن الديني في بلادنا وقد شهد مخاضا عسيرا إذ تفشّت المغالطات والمبالغات عن تاريخ الشأن الديني في تونس إذ سعت عدة أطراف إلى تشويه تونس فبلغ الأمر إلى حدّ اعتبارها الدولة «الكافرة» زمن بورقيبة وزمن بن علي وحتى بعد ثورة 14 جانفي بتقسيم أهل تونس إلى «كفّار» و«مسلمين» وأنها محتاجة إلى فتح إسلامي

جديد ..وقد عاين التونسيون كلّ هذا خلال زيارات شيوخ الدجل الوافدين على تونس للتهييج وزرع بذور الفتنة والانشقاقات ..

1- الفكر بالفكر ..للقضاء على الانشطار ..
وإزاء هذا الواقع المتردّي فلا سبيل إلى إصلاحه إلا بالعمل الفكري العلمي وذلك بمزيد البحث في ميراثنا الحضاريّ ،والتنقيبُ في الوثائق القديمة، لنخلّص الإبريز –بتعبير الطهطاوي- في عراقة المقوّم الديني المتزن في الشخصية الوطنية التونسية ،بما ينوّر المجادلين ،من شباب «الصّحْوة» بعد الثورة-بخاصة-، في مركزية التديّن، وقيَمِه، وتقاليدِه ،في حضارة بلادنا القديمة، وما تلتها من حقب وعهود إلى عصرنا، وقد تنوعتْ وتمايزتْ بتعدد الروافد الثقافية وتباينِ الأوضاع السياسية والاجتماعية، وبما يجَلّي سعة الإرث الإسلامي وانسجامه مع معطيات الراهن و إحداثات اللحظة التاريخية، بعيدا عن الموات الفكري والجمود «القهْريّ»،وبما يدعو إلى درء الحماسة الحمقاء والجلبة الهوجاء في إحياء قضايا كلّيّة وجزئيّة، بناءً على قراءة للنصوص الدينية فجّة، ليست بنتَ عصرها، وفي سياق حضاري لا يتحملها..»:

وإن تخلّصنا بشكل كبير من الفتنة الدينية الممنهجة التي شهدناها في تونس والتي ارتكزت على المساعي المعلنة والخفية لتمزيق وَحدتها العقدية الّتي تجلّت طيلة قرون طويلة في جامع الزيتونة وحصّنت البلاد من الفتن الطائفية الدامية.
وإن تمسّكنا بشكل متوسّط بالوَحدة العقدية التي تعدّ الثروةَ الحقيقة لأهل البلاد التونسية حيث فضّلهم الله تعالى بمذهب الإمام مالك في الفروع والعقيدة السُّنية الأشعرية في الأصول- من أجلى مظاهر هذه الرَّحمة الأشْعرية بالأمّة المحمدية أنها مدرسة عقديّة لا تغلو في التكفير، ولا تتميّع إلى حدّ التفريط، بل هي على النهج السوي المعتدل الذي يجمع الأمة ولا يفرّقها، ويحفظ للمخالِف فيما علم من الدين بالنظر مكانته ولا يُقصِيه ولا يخرجه من الدائرة الإسلامية بأي وجه من الوجوه. وبهذا المنهج تنزع الأشعرية فتيل الاقتتال بين المسلمين، وتؤهلهم للاتحاد نحو تحقيق مقاصد الدين، وتسحب البساط من تحت أقدام التكفيريين المتورطين في سفك دماء المسلمين، الذين قدّموا ذريعة للغير لتفريق المؤمنين- والمذهب الصوفي بشقيه العلمي والشعبي من مدرسة الجنيد ..

صارت هذه الوَحدة مهددة الآن أكثر من أي وقت مضى، فبورقيبة بالرغم من ضربه لجامع الزيتونة كما فهم الكثير لم يحاول استبدال عقيدة البلاد بعقيدة أخرى، وبن عليّ على الرغم من قضائه على البقية الباقية من التعليم الزيتوني لم يحاول أيضا فرض عقيدة أخرى أو إقحامها إقحاما ممنهجاً ، نعم كلّ منهما «ميّع» الدين وأقصاه من وجدان التونسيين شيئا فشيئا، ولكنهما لم يستبدلاه بالجهل المركب، وبقي جهل التونسي بدينه أقرب منه إلى البساطة مع استشعاره بأصالته الزيتونية واعتزازه بتلك المرجعية السديدة. وأما اليوم، فالذي ستشهده البلاد التونسية هو أقرب ما يكون إلى عملية ممنهجة لاستثمار ذلك الجهل البسيط الذي خلّفه بورقيبة وبن علي المتولّد أساسا من الخوف المتوقّع من التداخل بين السياسي والديني الذي نشأ من «الفكر الإخواني» في مصر في الستينات ثمّ تغلغل في تونس بجماعة «الاتجاه الإسلامي» لإحلال الجهل المركّب محلّه عبر غرس العقائد الوهابية التي تخالف ما عليه جمهور أهل السُّنة والجماعة السَّنية، والتي ستتسبب حتما في فِتَن دينية نحن في غنى عنها، حيث إن البلاد التونسية لا يمكن مسخ تاريخها العلمي بأي حال من الأحوال، فمهما استغل الوهابية نفوذهم المادي

والمرتزقة الذين يسهلون لهم اختراق البلاد لنشر عقائدهم الغريبة على البلاد لن يتمكنوا من استبدال هوية دينية صحيحة ترسّخت في وجداننا طيلة قرون طويلة ودافع عنها حُكام العدل وعلماء الحقّ...وحتى القوانين الوضعية التي ضبطها المشرّع التونسي فصلتها بالأحكام الشرعية الاسلامية قويّة حتى أنّ «مجلة الأحوال الشخصية» التي تعدّ عند «جماعة الاتجاه الإسلامي» كفرا بواحا وصارت عند حركة النهضة وهي في السلطة مكسبا وطنيا ...كانت من لمسات شيوخ الزيتونة في بنودها جميعا باستثناء النادر منها .. وقد طفح الرصيد التونسي في باب الاجتهاد بالشحنات المقاصديّة وقطعت الأبعاد التّشريعيّة والقانونيّة للاجتهاد في تونس مسافات تنويرية بعيدة المسافات ..

-2 تونس عصية على التشدّد ..مرحّبة بالجمال
ستظل تونس - دائما - عصية تاريخا وحاضرا ومستقبلا على الاسقاطات والتشدّد والقوة محمية باعتدالها وثوابت القيم التعايشية ..ومن حقّنا «أن نعتزّ بأصالة الإسلام في تونس، وأن نفتخر بأنّ لنا تراثًا دينيًّا خِصْبًا طبَعه علماء جِلّة، وفقهاء نُخْبة، ومستنيرون مجتهدون عِلْيَة، تشبّعوا بمعاني النصّ الأصْل، وتحرّروا بالفهْم الراجح، والنظر الواسع، في انسجام تامّ مع خصوصيّات البيئة، ومتطلّبات اللحظة، فكان الإسلام في القلوب، وفي العقول، وفي العادات وفي التقاليد، وفي القوانين، عاملَ تقدّم ورقيّ، ومقوّم شخصية وطنيّة متوازنة، ومؤلّفَ هويّة قُطْريّة ذاتِ ميزة بيّنة، ورافدَ محبّة وأخوّة ومواطنة ،لا خطرًا على الفكر ،والحياة، والوجود ... والغلبة ستكون للإسلام التونسي الذي سيهزم الإسلام المستورد أيّا كان مأتاه والجهات الداعمة له فالرؤية الوطنية للإسلام باعتدالها ووسطيّتها وانفتاحها ستزيل كلّ الرؤى الأخرى ليبقى الإسلام في نسخته التونسية الزيتونية الاجتهادية المقاصدية السنيّة المالكية الأشعرية الجنيدية، هو مقوّم أساسي من مقوّمات أمّتنا وهويتنا الوطنية، ولا يزايدّن أحد علينا شريطة الاشتغال على تطويره وإكسابه الرؤية التجديدية المدروسة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115