«انتصرنا وتونس اليوم حرّة وغدا سيكون العيش فيها أفضل». كان هذا منذ نحو عشر سنين. منذ عشر سنين وأنا كلّي أمل. أنظر في الأفق. أنتظر الأمل يشرق. أقول لنفسي وللناس من حولي: «بعض من الصبر وسيأتي الفرج. بعض من التريّث وغدا تطلع الشمس ونمسك بالأفق». مرّ الزمن. طال الترقّب. أصابني شكّ. لم يأت الأمل. مرّت السنون ولم أر الشمس ولا القمر. رأيت تونس تتقهقر. تونس كلّ يوم تسوء، تغرق. تبخّر عنديّ الحلم. انكسر في قلبيّ الأمل...
منذ الثورة، تعيش تونس فوضى وفيها انفلات وصخب. ضعفت الدولة. انهزمت شرّ هزيمة. لا أحد اليوم في البلاد يأمر وينهى. لا أحد اليوم في تونس يحكم. علا الضجيج. عمّ التهافت. ها هو الكلّ يصرخ، ينتفض، يثور. الكلّ، في غضب، يطالب وباسم الشعب يتكلّم. هي الفوضى عامّة، عارمة. هي البلاد تنزف. شيئا فشيئا، اقتلع من قلبيّ الأمل...
لماذا فشلت الثورة؟ لماذا ساء الحال وغدا العيش في تونس أمرّ وأعسر؟ أنا لا أرى سببا بيّنا يوضّح. أنا لا أفهم كيف فشلت الثورة... خلال السنين الماضيّة، أتينا كلّ أمر وشأن. أجرينا انتخابات نظيفة. كتبنا دستورا طويلا، مفصّلا. دفعنا المال للشهداء، للجرحى، لمن كان مناضلا ولمن لحقه ضرر. انتدبنا عشرات الآلاف ممّن هم في بطالة أو عوز. حصلت زيادات في الأجور وفي المنح. بعثنا بهيئات دستوريّة مكلّفة، متعدّدة. بنينا الجوامع وحرّرنا اللسان والقلم. فعلنا كلّ شيء وأكثر...
قلت اليوم انتهينا. انتهينا من ظلمات الماضي، من الأحقاد والضغائن. انتهينا من التعسّف والفوضى. لنا اليوم دستور «لا مثيل له» وقوانين عديدة وهيئات ساهرة. اليوم، بنينا جميع أركان الدولة. أسّسنا للحرّية والكرامة. اليوم، أصبحنا في مأمن من كلّ حكم فاسد، متجبّر. «لا ظلم حقيقة بعد اليوم». قلت هذا لنفسي وللناس من حولي. قلت اليوم انتهينا وحانت ساعة الجدّ. حان الوقت لبناء عيش أفضل. يجب أن نتّكل على أنفسنا وننطلق في الكدّ، في العمل الجيّد. هذا ما كنت أعتقد وفرحت بما كنت أعتقد. مرّة أخرى، أخطأت الظنّ والمعتقد. حصل ما لا لم أكن أتوقّع. مع السنين، رأيت تونس تغرق. رأيت الدهماء تهيج ولا تقعد. رأيت الحاكم من نزاعاته لا ينتهي. من جديد، يعاودني إحباط أزرق. من جديد، يشدّني يأس أسود. ضاعت الثورة ومعها الأمل. ذهب الجهد هباء في ما لا ينفع. ضاع المال العام وغار في الأفق الأفق...
أنفقنا بلا حساب في الانتخابات المتعدّدة، في التعويضات، في الحقيقة والكرامة، في الهيئات الدستوريّة، في مساعدة المناطق الفقيرة، في الزيادات في الأجور، في العديد من المسائل المختلفة. رغم ما بذل من جهد وأنفق من مال، ازدادت في الناس المطلبيّة وتعاظم التهافت وتفاقم الفساد والسرقة. اضطربت البلاد. أغلقت المصانع. هرب المستثمرون من تونسيّين وأجانب. تراجع الإنتاج كلّه. انتهى الفسفاط والنفط. تعطّلت الدروس وهمّشت الجامعة. كسد السوق. أكل البلاد إهمال وتسيّب. ضاعت تونس والثورة المباركة...
بعد الثورة، أصبح العيش في تونس عصيبا، مرّا. أصاب النفوس ضيق ويأس. اظلمّت الدنيا وشدّ الكلّ قنوط محبط. هرب البلاد الشباب غصبا وهجرها من الناس من كانت له خبرة أو تجربة. أرى الناس من حولي، كلّ يتدبّر أمره. يسعى لإنقاذ نفسه. يجتهد للهروب بجلده. الكلّ، نساء ورجالا، يريد الهجّ. أصبحت تونس «جهنّم». تبخّر حلمي وهذه تونس، أمامي، تتراجع، تنتهي...
فشلت الثورة.. من أفشل الثورة؟ أمّا الحاكم فهو اليوم مهزوم، مكسور الجناح، مقطوع اليد والرقبة. «يمشي الحاكم على ركبتيه»، كتب أحدهم على الحائط الأبيض بالدهن الأسود. أرى السلط اليوم في خشية، تتخفّى. تستعطف. تتذرّع. رغم فوزه بالصندوق، ظلّ الحاكم مفكّك الأوصال، عاجزا، لا حول له ولا قوّة. هو اليوم في عجز أزرق ولا أخاله قادرا على فعل شيء
ينفع. تونس اليوم بلا حاكم. من إذا أفسد الثورة وعطّل السير وجعلنا في الدرك الأسفل؟ من هو الذي قتل أملي؟ أفشل الثورة الناس كلّهم والسلط. أنا وأنت والآخر والكلّ جميعا هم السبب في فشل الثورة. نحن كلّنا جميعا ساهمنا في كسر الأمل. كلّ بما أتى من صمت، من فعل، من تهافت، من لامبالاة، من مناورة... شارك في الإطاحة بتونس، بالثورة.
ما نرى اليوم في البلاد من خمول عامّ، من تسيّب ضارب، من نهب وسرقة، من فوضى، من إضرابات واعتصامات، من تهريب وتهرّب... أضرّ بالبلاد ضررا شديدا وجعل الحياة المشتركة أشدّ وأعصب. ما أتته الأحزاب والمنظّمات والأفراد من استقالة ومناورة، ما أظهرته السلط من عجز وعدم اقتدار، ما فعلته الشغّيلة من انتهازيّة وتكبّر، ما تجلّى في الناس جميعا من أنانيّة ومن غيّ وغباوة... هو المفشل للثورة. الشعب بأفراده، بفئاته، بطبقاته، بممثّليه، بسلطاته، بمنظّماته هو المسؤول عمّا حصل من عبث وتبعثر. السلطات السياسيّة والدهماء والنخب كلّها مسؤولة عمّا يجري اليوم في تونس من فوضى ومن عربدة. نحن جميعا، كلّ في موقعه، كلّ حسب جهده، أفشل الثورة.