ما يكون بساحة حرب في العصور القديمة، حيث تتكدس أجساد المحاربين على أرض من الوحول وتمتزج دماء المنتصرين بأنّات المهزومين، فيما يحاول الناجون من أتون المعركة، التقاط انفاسهم وتضميد جراحهم استعدادا لمعارك أخرى قادمة. فبعد اسقاط الفخفاخ وحكومته، انطلق الجميع في الاستعداد لمعركة لا تقل ضراوة: معركة اسقاط رئيس البرلمان.
على ساحات الحروب السياسية التونسية، يخيم الكثير من الضباب، فلا أحد بوسعه أن يتوقع من يحارب من؟ ولماذا؟ ولا أن يعرف بشكل مسبق من سينتصر ومن سيُهزم؟ حتى وإن ذهب أغلب عُقلاء القوم إلى القول بأن لا أحد ينتصر في حرب الكل ضد الكل وأن الجميع إلى الخسارة بإذن الله سائرون.
وعبر غبار المعركة الأخيرة التي انتهت بالسقوط الدراماتيكي للحكومة وتكليف السيد هشام المشيشي بتشكيل الحكومة القادمة يتبين للرائي أن الوحيد الذي مازال صامدا على صهوة حصانه متربعا على عرش استطلاعات الرأي، محافظا على حظوة الناخبين الثمينة، هو رئيس الجمهورية قيس سعيد.
فالرئيس، استفاد بشكل كبير من عجز الطبقة السياسية عن فهم الأسباب العميقة التي حملته إلى عرش الرئاسة، فإثر بضعة أيام قليلة تلت صدمة نتائج الانتخابات الرئاسية، وبعد بعض التصريحات الانطباعية من هنا وهناك، عادت الماكينات الحزبية ذاتها للعمل بنفس الطرق، وفي إطار نفس التكتيكات والحسابات ونفس المناورات، كأن شيئا لم يكن، ودون القيام بأية مراجعات جدية، بل عادت المناكفات والمناوشات بينها بشكل أكثر شراسة، خاصة بعد نتائج الانتخابات التشريعية، التي افضت إلى مشهد يذكّر بقوة بما كان عليه ملوك الطوائف في الأندلس قبيل سقوطها.
ما لم تستوعبه الطبقة السياسية وفرسانها، هو أن انتصار الرئيس بتلك السهولة المذهلة، أمام القائمة الطويلة لمنافسيه، من السياسيين المحنكين، ومن مراكز قوى المال والإعلام، وهزيمتهم النكراء جميعا أمامه، لم يكن الا انعكاسا طبيعيا، صادقا، لحالة احباط عامة، لدى أغلب الناس، ولأزمة قيم داخل مجتمع بدأ يصيبه اليأس من أن يكون الحل «سياسيا» بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، فالسياسة أصبحت رديفا لدى عامة الناس لكل ما هو منفر على المستوى القيمي. وهو أمر مفزع في مجتمع محافظ، وجد في استقامة الرئيس وفي نأيه عن المشهد السياسي الكلاسيكي ملاذا قيميا آمنا.
وفيما كان محاربو السياسة منتشين بما غنموا من حرية بعد سقوط النظام السابق، سواء أولئك الذين سعوا اليها طيلة عقود، او الذين نزلت عليهم هذه الحرية بغتة من حيث لا يعلمون. وللأسف سكارى الحرية، على طول المشهد السياسي وعرضه، لم يعوا قبل الانتخابات ان الناس قد انفضوا من حولهم، ولم يكن لديهم بعد الانتخابات ما يكفي من الفطنة حتى يجعلوا معالجة هذه الجوانب من الأزمة المجتمعية العميقة على رأس أولوياتهم بعد أن باح الصندوق بأسراره. ولم يسع أي منهم إلى الجلوس سويّة للنظر في سبل تصحيح المسار.
فحركة النهضة مثلا، لم تكن قادرة، مباشرة بعد الانتخابات، على كبح الرغبة الجامحة لدى جزء من قياداتها، ومن كوادرها الوسطى وأنصارها في العودة إلى الحكم من موقع القيادة، بعد خمس سنوات طويلة من الصبر، يعتبرون أن الحركة تنازلت خلالها وقدمت ما يكفي من التضحيات حين قبلت – على مضض - بتمثيل حكومي أقل بكثير من وزنها البرلماني. هذه الرغبة الجامحة في الحكم ذاتها دفعت النهضة تحت الضغط الداخلي وتحت ضغط الآجال الدستورية إلى أن تغامر كما لم تفعل من قبل في استعمال الحق الذي منحها إياه الدستور بتقديم مرشح لتشكيل الحكومة – بعد أن تأكدت من وضع تاج البرلمان على رأس شيخها وزعيمها – دون أن تكلف نفسها عناء التأكد مسبقا من تكوين أغلبية برلمانية كافية لتمرير الحكومة ودعمها. طبعا، هذه المغامرة فشلت فشلا ذريعا، وجرّدت النهضة – التي دخلت بعد في حروبها الداخلية - بسرعة من ورقتها الرابحة، أي تعيين رئيس الحكومة القادم، واضطرت الى التنازل عنها، غصبا، هدية لساكن قرطاج الجديد، لتفقد بذلك القدرة على التحكم في المسار الحكومي.
هذا الخطأ يعود أساسا إلى سوء تقدير سابق، حين اعتبرت الحركة ان مجرد توافقها مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، واتفاقات الهدنة المتكررة التي تعقدها من حين الى آخر مع بعض الوجوه الحزبية المحسوبة على النظام القديم، يعتبر خطوة كافية لتحقيق مقبولية كافية لها في المشهد السياسي. بما يعفيها من البحث عن أي توافقات أخرى. مما حال دون قيامها بفتح حوار عميق مع مختلف مكونات مجتمع مازالت الأغلبية الساحقة من نخبه تتبنى خطابا معاديا، بل إقصائيا تجاهها، يجد له صدى إعلاميا كبيرا، ونجح مع الوقت في تشكيل رأي عام واسع مناوئ، أصبحت حتى «قوى الخط الثوري»، الحليف التقليدي لها، تٌأخذه بعين الاعتبار وتقرأ له ألف حساب.
طبعا من الاجحاف أن يتم تحميل النهضة لوحدها مسؤولية تعثر انطلاقة العهدة الجديدة، والاقرار بأخطائها لا يعفي الآخرين من نصيبهم من المسؤولية.
ففشل النهضة في بناء علاقة ثقة مع شركائها من غير الاسلاميين، لا يبرر بأي حال من الأحوال أخطاء هؤلاء، الذين تصوروا ان انتصارهم على النهضة بسقوط حكومة الجملي، ونجاحهم - في التقاء مع إرادة الرئيس - في تمرير الياس الفخفاخ إلى قصر القصبة، يسمح لهم بابتزازها والامعان في إذلالها، بما يزيد من رصيدهم لدى الناخبين، حيث لم يمر يوم منذ تشكيل الحكومة دون حرب كلامية تطلقها هذه الأحزاب على شريكها في نفس الحكومة، وتوهمت أن مجرد معاداة النهضة سيمنحها شعبية تحافظ لها على بريقها، وتحصن مواقعها في الحكم، واعتبرت ان إنجازاتها الحكومية المنتظرة ستعفيها من طرح قضايا انقاذ النظام السياسي. وحتى محاولاتهم اصلاح ذات البين، جاءت كما يقول المعلقون الرياضيون في الوقت الضائع. ولم تكن لها أية حظوظ في النجاح.
فرغبة البعض في الانتقام السياسي، ورغبة البعض الآخر في التمايز السياسي لتفادي مصير المؤتمر والتكتل وحتى تحيا تونس، عزز الخط السياسي داخل النهضة الذي يكتفي بالتوافقات التكتيكية والمرحلية حتى وإن كان ذلك في قطيعة مع القاعدة الإنتخابية المحافظة للحركة، التي خسرت بالفعل قسما كبيرا منها لصالح الرئيس في الانتخابات الأخيرة. هذا الخط السياسي تعزز أيضا في اتجاه حماية عرش الشيخ في البرلمان، الذي بدأ يهتز تحت القصف البرلماني والإعلامي المتواصل دون توقف لعبير موسي، والذي بدأ الجميع ينخرطون فيه خوفا من أن تنفرد هذه الاخيرة بالهيمنة على الرصيد الانتخابي لموجة معاداة النهضة التي عادت لتعلو بقوة بعد سنوات من الهدوء النسبي.
هذا الخط السياسي، لم ينتبه بالقدر الكافي إلى الصعود الجديد لخطاب معاداة النهضة، ولم يسع إلى بناء توافقات جدية واسعة، ولم يكن قادرا على تجاوز الجرح الرمزي لفقدان المبادرة، وقدّر أن حماية عرش الشيخ في باردو يمر حتما عبر العمل على اسقاط حكومة الفخفاخ، بكل الطرق، بما في ذلك تشكيل ترويكا جديدة مع قلب تونس وائتلاف الكرامة، وبذلك تكون ضربت عصفورين بحجر واحد: تثبت الشيخ على رأس المجلس، وتسترجع المبادرة في المسار الحكومي. ولم يستوعب شركاء النهضة في الحكومة بدورهم أن «حيادهم» في البداية امام ما يتعرض اليه رئيس البرلمان، ثم عداءهم المعلن له، يجعل من الصعوبة بمكان بناء أي توافق معها، وراهنوا فقط على كسب النقاط من خلال اضعافها وركوب رياح الخطاب المعادي لها.
ولكن كما يقول أهل الشام: حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر، أو بلهجتنا التونسية: «اللي يحسب وحدو يفضلو»، فلا النهضة نجحت في استعادة المبادرة في المسار الحكومي، ولا هي ضمنت تركيز عرش شيخها في البرلمان. ولا خصومهاْ/شركائها في الحكومة، كسبوا شيئا في الرأي العام، بل الأرجح أن يجدوا أنفسهم أيضا خارج المركب الحكومي، خاصة إذا تأكد توجه الرئيس إلى تشكيل حكومة كفاءات غير متحزبة. ويخطؤون مجددا إذا خيّل لهم أن الرياح التي تهب في اتجاه النهضة لن تمسهم بسوء.
وحده الرئيس، خرج من الأشهر الأخيرة منتصرا، أو في الحد الأدنى بأخف الأضرار. ومن أعالي هضبة قرطاج، تأتيه أصوات أنصاره وهتافاتهم، مأخوذين بسحر كلماته، وبعباءة عمر ابن الخطاب التي ارتداها. وبقدرته الفائقة على تثبيت مبدئيته الصارمة التي تفرض الاحترام. الباقون سيمضي وقت طويل قبل أن ينجحوا في تضميد جراحهم، هذا اذا كتبت لهم حياة أخرى، واذا نجحوا في فهم التحولات الجذرية التي تشق المجتمع وفي فهم حاجة التونسيين إلى تغيير عميق. وهذا يبدو أمرا صعبا الآن فالنهضة سواء بقي زعيمها حاكما بأمره في قصر باردو أم لا، ستعود على الأرجح آجلا أو عاجلا إلى حروبها الأهلية الداخلية التي قد تسرّع الهزيمة الأخيرة في رسم مآلاتها، أما الآخرون فتشتتهم وخروجهم من الحكم بهذا الشكل سيعمق جراحهم أكثر، وأغلب كياناتهم لن تقوى على الصمود خارج الحكم في الأشهر القادمة.
الرئيس أيضا، لن يكون بمنأى عن العواصف، فهو سيصبح - شاء ذلك ام أبى - ربان السفينة في قادم الأيام، فالحكومة القادمة ستكون كما يقول الفلاسفة، بالفعل وبالقوة، وإن أنكر أنصاره ذلك، حكومة الرئيس، وسيكون عليه أن يواجه آثار أزمة اقتصادية طاحنة لم تعرف لها البلاد مثيلا. وسيكون مسؤولا أمام «الرعية» على حصيلة جهودها. وعن كل بغلة تعثر في دروب البلاد. وهذا سيكون أكبر تحدّ يواجهه في المرحلة القادمة، فماكينة الاقتصاد شبه متوقفة، وكل مؤشراته عادت إلى اللون الأحمر والاحتقان الاجتماعي يتوسع سريعا بشكل ينذر بخريف وشتاء قاسيين.
وسنكون من السذاجة بمكان إذا تصورنا أنه بإمكانه في المستقبل التعويل على دعم الأحزاب لحكومته، حتى وان صوتوا لها خوفا من حل البرلمان، وتوجسا من العودة الى ساحة الوغى الانتخابية.
والرئيس رغم امساكه بمفاتيح قرطاج والقصبة معا، لا يملك إلى حدّ الآن مفتاح تعديل النظام الانتخابي الذي يفتح له الباب مستقبلا لتعديل النظام السياسي من خلال تعديل الدستور، فسكان قصر باردو، حتى وان أطاحوا برئيسهم، لن يقبلوا بتعديل يغلق طريق العودة أمامهم عند نهاية العهدة. الشيء الذي يعني ان المواجهة السياسية مع البرلمان بمختلف مكوناته قادمة لا محالة.
كما سيكون على الرئيس، إضافة الى عداء النهضة المعلن، أن يتحمل ريبة قسما آخر من السياسيين الذين يتوجسون، سرا وجهرا، من رئيس قوي يحكم في قرطاج وفي القصبة معا، ويعتبرون ان الماضي اثبت سابقا أن اضعاف النهضة يؤدي بالضرورة الى اختلال الموازين السياسية ويفتح الباب أمام حكم قوي لا يحد من سلطته أحد، وأخشى ما يخشاه هؤلاء هو انحراف مثل هذا الحكم نحو التسلط دونما أي رادع.
صحيح ان المحاربين الآن يلتقطون أنفاسهم، وصحيح ان جراحهم عميقة، ويحتاجون إلى وقت لا بأس به لتضميدها وعلاجها، لكن لا شيء يدل على أننا على أبواب سلام شامل أو حتى مجرد هدنة، والتكهن بالمستقبل القريب، مع طبقة سياسية، تدين بالماكيافيلية، يحتاج كما يقول أجدادنا إلى «عزام ورأسه عريان». لكن يبقى السؤال قائما، إلى متى ستكون البلاد قادرة على تحمل هذه الحرب الاهلية السياسية التي - ككل الحروب - سيدفع المواطن دائما ثمنها في النهاية؟ وهل من عقلاء من بين أهل السياسة أو من حولهم يعملون قريبا على وقف إطلاق نار عاجل رفقا بتونس؟ ومن سيجرأ في قادم الأيام على مخاطبة عقول الناس قبل قلوبهم، ويجرأ على الإصلاح الذي تعثر رغم كل المحاولات خلال العشرية الأخيرة، حتى لا تغرق السفينة ولا تفلس البلاد ولا يجوع الناس؟
حروب السياسة في تونس: بين حسابات الحقل وحساب البيدر
- بقلم المغرب
- 09:19 03/08/2020
- 1207 عدد المشاهدات
بقلم : إياد الدهماني
الآن وقد وضعت معركة اسقاط حكومة إلياس الفخفاخ أوزارها، وبدأ غبارها الكثيف ينجلي ببطء، يبدو المشهد السياسي التونسي أشبه