المفقود الذي بقي دوما منشودا الكفاءة المزدوجة: في السياسة وفي الاقتصاد!

مرة أخرى سيجد التونسيون أنفسهم في خضم «خوماضة» تعيين رئيس الحكومة، الأمر الذي يتدخل فيه من هب ودب، في المقاهي وعن طريق الشبكات الاجتماعية،

وكأنها مقابلة كروية بين الأجوار، كل له اسماؤه وقائماته، كل واحدة يروج لها بأنها الأفضل -إطلاقا- من غيرها، بينما التونسيون جربونا كلنا، واحدا واحدا وجماعة، ولم يعثروا إلى حدّ الآن عن أي فلاح، ورغم ذلك لانزال «مادين وجوهنا»، لا نريد إلا المزيد. وما ضرنا في ذلك، بما أن المحاسبة وتحميل المسؤولية أمران أصبحا في عداد المفقودين نتيجة «الرفس والعفس التونسي في حلاب مقعور».
وللمرة الألف تدار العملية مقلوبة على رأسها، في إطار لغو لا ينتهي حول الأسماء دون أن نفهم ماذا سيفعل العباقرة الذين لم يسبق للزمان أن عرف مثلهم وما الفرق بين هذا وذاك حتى نستجلي الخبر ونعي المقاصد. حيث يبقى من البديهي أنه إذا أتى من لديه الأفكار الملائمة للتقدم بالوضع التونسي فسيجد السند المباشر من التونسيين أنفسهم، أولئك الذين يمثلون أفضل السند.

والأفكار لا يمكن أن تأتي إلا من دروس التجربة والتصور السليم للواقع المحلي والدولي، كما هي وليس كما توحي به الأوهام وبيع الريح للمراكب.
أزمة تونس مركبة من موروث ما قبل 14 الذي، خلافا لما يردده البعض كان، صحيح، على حد أدنى من التماسك، لكنه مهدد بالانهيار في كل لحظة، وهو ما تم فعلا ولم يكن ذلك «لعب ذراري» بل انتفاضة شعبية صاعقة أسقطت نظام حكم بطم طميمه، كما أن الأزمة متأتية من مخلفات الـ«فوضى الطبيعية لما بعد الثورة»، وناتجة أيضا عن صدمة جائحة الكورونا. أسباب مختلفة كليا لكنها متداخلة، في حصيلة نهائية تتسم بالبعثرة الرهيبة للأمر الاقتصادي والمالي على جميع الأصعدة.
لكن دروس التجربة، المحلية والدولية، من قبل والآن وفي المستقبل، تثبت أن الحل بيد الدولة والدولة وحدها، كأداة قادرة على التصرف خارج القانون الاقتصادي القائم وعلى اتخاذ التدابير الاستثنائية المتلائمة مع الوضع الاستثنائي. ولنا في كيفية تصرف العالم الليبيرالي مع الأزمتين، المالية والصحية، أكبر دليل، وكيف وقع الالتجاء لتدخل الدول والبنوك المركزية بشكل خارق لكل العادات التقليدية لتسيير الاقتصاد، لتوفير الحلول المناسبة لصدمات الأزمتين. بينما نحن في تونس وراء كل قراراتنا منذ اندلاع الثورة «جدارمي - مراقب» مكلف ب'العسة» على ميزانيتنا للتأكد من أمر وحيد: «قدرتها على خلاص الدين لدائنينا»، والباقي، كل الباقي، بما فيه هل هي ثورة أم برويطة، شأن لا يعنيه. والانبطاح الجماعي لهذا التمشي الأعرج الذي وقع تفنيده من طرف سياسات أعتى الاقتصاديات الليبيرالية هو أصل الداء.
إذن هناك شروط سياسية لمواجهة الأزمات الكبرى التي تتعطل فيها بطبيعة الأمر الحلول الاقتصادية التقليدية. وبأي كيفية كان من المفروض أن تتم سياسيا مواجهة الأزمة الحادة الاقتصادية التونسية منذ اندلاعها سنة 2011؟ والجواب هو: بالوحدة الوطنية. لكن هل بأي نوع من أنواع الوحدة الوطنية بما فيه ما هو متناقض مع الثورة وما عبرت عنه من رغبة شعبية في التحرر من التسلط، بكل أنواعه واشكاله، ومن توق نحو الحرية والديمقراطية؟ طبعا لا. حيث لا مكان لأي وحدة وطنية تهيمن عليها وتقودها الرجعية والسلفية ومتناقضة مع المكاسب التقدمية لدولة الاستقلال وشخصية التونسي كما نحتتها تلك المسيرة الحداثية الرائدة.
إذن هناك شروط سياسية مسبقة للمسألة الاقتصادية والاجتماعية يبقى دوما من المطلوب توفيرها. أما بالنسبة للمسألة التنموية في حد ذاتها، ف»مصدر الداء يتمثل في توقف الإنتاج وأصل الدواء يتنزل عند عودة الإنتاج». أي أن عودة الإنتاج تسبق كل الحلول الأخرى، لأنها العقدة الوحيدة التي بتسريحها تنفتح شيئا فشيئا كل العقد الأخرى، خصوصا من خلال أول انعكاس هام لذلك والمتمثل في تحسين وضع مالية الدولة والتي بـ«حلان جوانحها» ولو بنسب قليلة في البداية، تخلق ديناميكية الخلاص التدريجي، من خلال أمرين على الأقل: دفع ما هو متخلد بذمة الدولة من ديون للمؤسسات الصغرى والمتوسطة لكي تسترجع -بدورها- قدرتها على الانتاج، وإرجاع ما هو متخلد بذمة الدولة من ديون للمؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية، حتى تدخل هي الأخرى في التعافي التدريجي إضافة لجملة أخرى من الإجراءات الإصلاحية الهامة التي تتم صياغتها حالة بحالة نظرا للتنوع الكبير للوضعيات.
على أساس هذا الطابق الأرضي ينبني الطابق الموالي لاستراتيجية الانقاذ. حيث يلي التعجيل باسترجاع النسق الأدنى للإنتاج بالإضافة للدفع الناجم عن خلاص الديون المتخلدة بذمة الدولة، ستة عناصر مصيرية ضمن هذا الطابق، متمثلة في: إعادة النظر في الشكل المنفلت للدعم الذي يثقل كاهل الدولة دون تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية، المراقبة والمتابعة والمحاسبة لتدخل الدولة وعمل الإدارة لمقاومة ضعف الأداء ومواجهة الفساد، إحكام التصرف في المسالك التجارية والوقوف الحازم للتجارة الموازية والمافيا وتكثيف المراقبة والمتابعة والمحاسبة الجبائية للحد من نزيف التهرب وحمل البنوك على المساهمة الفعلية في التنمية والتنقيص من المضارة العقيمة، واستئصال القرار الأخرق الذي أدى إلى تدهور في نفس الآن إلى تدهور قيمة الدينار والتضخم المجحف وغلاء سعر القرض بما عطل كليا النشاط الاقتصادي .

ويتمثل الطابق الثالث والأخير لبناء صرح الإنقاذ والخروج من منطقة الخطر و«حط الساق الأولى» في فضاء النمط المستقبلي المنشود، في وضع قبلة مجمل المنوال التنموي التونسي في اتجاه الفلسفة التنموية الجديدة، القادرة وحدها على إنجاز الإنقاذ التاريخي وليس الظرفي، فلسفة «التركيز المطلق على تنمية القوى الذاتية»، والتخلي عن «تعليق أمرنا على معاليق غيرنا». وتتلخص الفكرة المركزية في خصوص فلسفة النمط التنموي المنشود في ثلاث كلمات: «تطوير القوى الذاتية». والفكرة لها مدلولان: واحد تنموي والآخر سياسي مرتبطين اشد الارتباط. يهم التنموي قلب المنطق الذي سارت عليه التنمية إلى حد الآن رأسا على عقب، وذلك بتفضيل تطوير الدورة الاقتصادية الداخلية على الباقي، حتى تتحول مسألة المنافسة الدولية التي يتعرض لها الاقتصاد إلى «فيض من الاقتصاد الداخلي بمردوديته العالية وانتاجيته المتطورة وانسجامه مع أحدث المعايير البيئية والصحية والاجتماعية». وفي إطار مثل هذه الفلسفة لا مكان لأي «تمييز إيجابي» سخيف لأنه، من المنطلق، تكون كل الجهات موضوعة على نفس خط الحقوق والواجبات، للمساهمة الندية وليس من باب الصدقة في العملية التنموية، والانتفاع بفوائدها بالعدالة والنزاهة المطلوبة. كما أن كل الفئات الاجتماعية تتمتع بنفس فرص الرقي والاندماج والابتكار ولا فضل لفئة على أخرى أو لأفراد على آخرين إلا بالتقوى والعمل الصالح، بإخراج المنوال التنموي من منوال العائلات المحظوظة المحتكرة لكل شيء إلى منوال الكفاءة والجدارة ومكافأة كل حسب قدراته والاستجابة لكل حسب حاجياته.

أما المدلول السياسي للمنوال التنموي فيتمثل في وضع حد للضحك على ذقون الناس. حيث أن «الاقتصاد السياسي عقد اجتماعي أو لا يكون». فالعملية ليست متعلقة بالعثور على «أبطال في رفع الأثقال من الكفاءات» بقدر ما هي مرتبطة بالاهتداء لمن له ثقافة عصرية في الشأن الاقتصادي، تعترف بأنه «لا يعود أليك إلا بما تقدمه». أي أن كل الأمر يتعلق بقدرة كل طرف على ما يمكن أن يساهم به مقابل ما سيناله من مكافأة عادلة على مساهمته. كثير من السياسيين يجهلون أن الناس أصبحوا «محاسبية»، يعرفون أكثر مما يتصور هؤلاء من أين تؤكل كثيرا من الأكتف الاقتصادية. وهو ما يجعل من بعض الاقتصاديات الناجحة أكثر من غيرها تجربة هامة تستحق كل الانتباه. فإذا نظرنا إلى اقتصاديات ألمانيا وأوروبا الشمالية، وبدون أي تأليه لأي أمر كان وهي كلها تعاني من ويلات الليبيرالية المتنطعة، نجد أن الديمقراطية الاجتماعية والتضامن الوطني وروح المسؤولية العالية والثقافة المتطورة تجعل هذه البلدان في وضعيات أفضل بكثير من غيرها من أوروبا المتطورة جدا، لأن طريقتها في المعالجة فيها تناغم مع ما يسمى بالعقد الاجتماعي، سواء في بعده السياسي حول النظام الجمهوري (حتى لو كان ملكيا) أو بعده التنموي في خصوص التضامن الوطني.
علما وأن الطوابق الثلاثة لعملية الانقاذ الآني والاستراتيجي لا تقاد بشكل منفصل كل طابق على حدة، بل كل البناية مشدودة ببعضها بعضا، لا يسلم أي طابق لوحده في انفصال عن البقية، لكن ذلك لا يمنع من التدرج، لكنه تدرج معلوم الأهداف مسبقا، بالتكامل والترابط الضروريين.
هل يمكن أن نجد الكفاءة التي ترتقي بثقافة التونسيين لتجعلهم في الركب الأول وليس اللاحق من الحضارات، كما هي الآن بإعادة تشكيل نفسها، حتى تساهم تونس بالندية المطلوبة وعلى نفس الخط من الالتزام والفعل في بناء الرؤى الكونية المتجددة، بما فيه تحت ضغط الأحداث وما أكثرها، للتقدم البشري الجماعي في هذا الوقت المعقد والصعب؟
ذلك فقط ما نطالب به ونحن واثقون أنه ليس من الصعب على هذا البلد المعطاء.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115