كما أنها تتشدّق بالحلول السحرية ولا تمتلك أجوبة حقيقية، فقط أحلام وردية تقوم على العواطف الجهوية أو القومية أو الإيديولوجية أو السياسية أو النقابية أو حتى الكروية.. تقوم على كل ما يشبع عواطف الجماهير وحماسته وتلهب مشاعره.. فالشعبوية يمكن أن تنّدد حتى بنفسها كي تثير حماسة العامة.
الشعبوية لا تخلق الثروة ولا تدفع النمو، ولا تبتكر القيمة ولا المعنى ولا توفر فرص العيش الكريم، ولا ترفع مستوى التعليم، ولا تحدّ من هجرة الأدمغة ولا تقدّم بدائل تنموية ولا مقاربات علمية لإنها باختصار لا تقدّم حلولا بل أوهاما. فالخطاب الشعبوي يرفض الإجابة عن كيف ومتى وأين وبأي وسيلة أو غاية.. لأنّ غايته التضليل أيضا..
فالخطاب الشعبوي يتغذى بعداء الفكر والعلم لأنه لا يقدّم أرقاما ولا بيانات ولا معلومات، لذلك يحيد عن التعامل الجدي والمسؤول مع مختلف الإشكاليات الراهنة، ولا يقدّم هذا الخطاب غير الملحميات الكلامية والشنفريات اللغوية المجازية.. كأن يستحضر ويستبطن مشاعر نونية عمرو بن كثلوم «إذا بلغ الفطام لنا صبي تخرّ له الجبابرة ساجدينا»..
وهاهي الشعبوية التونسية اليوم تستولي أيضا على مقاصد بيت الشابي ‹إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر»، ولا تخبر هذا الشعب المريد أنّ إرادته لا تتحقّق إلا بالإيمان بقيمة العمل ومحاربة الجهل، أصل كل داء..
ربما علينا اليوم أن ندفع، كل من مكانه لإيقاف هذا الخدر للعقل وهذا التنويم، وأن نجدّد الخطاب والأفكار والرؤى، لأنّ الشعبوية تكرّس التقاعس وتعمّق المطلبية الطوباوية، في غياب البراغماتية والمنطق.
إن الأحلام، كل الأحلام مشروعة ولكن تحقيقها لن يكون بالشعبوية.. ربما آن الأوان أن نكون أكثر واقعية وصراحة، ولا بأس أن نحلم أكثر وخاصة نعمل أكثر.
فلا يمكن أن يزدهر وطن يرنو إلى إعلاء قيم الحرية والكرامة والمساواة إلا عندما نضع العاطفة جانبا ونعلي العقل، لا يمكن أن نشيّد حضارة تحترم إنسانية الإنسان دون أن نزيل الغبار عن كُتبنا العتيقة وأفكارنا، وحقائقنا العتيقة، وأمراضنا العتيقة، ونسمي الأشياء بمسمياتها خصوصا تلك التي تنبذ المعرفة وتخدّر العقل. فالشعبوية لا تكرّس غير العجز والإخفاق والمزيد منه.