له قيم وطموحات مشتركة ، وهو الان بصدد التحوّل الى شعب واحد يجتمع حول توافق بصدد التشكّل، عالميا،»
هكذا يرى احد الصحفيين اليساريين في قبرص، وهذا صحيح الى حد ما رغم اختلاف المطالب الاحتجاجية،
فحتى وان اختلفت من بلد الى اخر ، من فرنسا، اين عملية لي الذراع بين النقابات والرئيس ماكرون تتواصل لأسابيع بعد ان انهكت احتجاجات السترات الصفراء البلاد امنيا وسياسيا و زعزعت سادس قوة اقتصادية عالمية واظهرت هشاشة اوضاعها الاجتماعية ، أو في الشيلي ، التي تعتبر من اكثر البلدان تفاوتا اجتماعيا في العالم ، اين خرج الطلاب والنقابيون في مظاهرات عارمة احتجاجا على الاوضاع الاجتماعية والزيادة في اسعار النقل ، أو في هونج كونج ، التي خرج شبابها محتجين على الهيمنة الاقتصادية والسياسية الصينية ، فان الاحتجاجات لها قاسم مشترك: العقد الاجتماعي الذي ساد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي ميّز حوالي ثلاثة عقود من «الرخاء الاقتصادي» والديمقراطية السياسية نتيجة الاستقرار ، حين وضعت جل بلدان العالم قواعد جديدة للاقتصاد ولنظام النقد ، وقدمت المعونات للبدان الفقيرة حتى لا تسقط في احضان الشيوعية واصبحت الطبقة الوسطى ، خاصة في الدول الغربية ، تنعم بفرص عمل جيدة وتغطية اجتماعية شاملة ، ذلك قبل ان يدخل الاقتصاد العالمي في ازمة منذ ثمانينات القرن الماضي ، كانت ضحيتها الاولى الطبقات الفقيرة والمتوسطة ، التي فقدت جل امتيازاتها واصبحت تخشى على مستقبلها...
وفي المنطقة العربية ، عرفت اربعة بلدان تحركات غير مسبوقة خلال السنة الماضية ، اعتبرت استمرارا للانتفاضات العربية ، وهي السودان التي انتهت باتفاق هش بين الجيش والحراك ، والجزائر التي تواصل حراكها دون توقف رغم الانتخابات الرئاسية ، ولبنان التي خرج شبابها محتجا ضد الفساد وغلاء المعيشة والعراق أين خلفت الاحتجاجات ضد التدخل الاجنبي (الامريكي والايراني ) واهتراء المؤسسات واستشراء الفساد ، الذي اتى على 200 مليار دولار خلال اقل من عقدين حسب اللجنة البرلمانية التي تكونت للتحقيق ، اكثر من 450 قتيلا و حوالي 20 الف جريحا.
وان اختلفت طرق الاحتجاج واسبابها المباشرة ، فهناك ازمة حادة تطال كل المجتمعات منذ الازمة الاقتصادية العالمية سنة2008 ،خلفت تراجعا على مستوى المعيشى مع ما صاحبه من تقليص لفر ص الشغل وارتفاع التضخم والحد من فرص التشغيل....رافقه يأس لدى الشباب الذين ادركوا ان جيلهم انسدت امامه الافق وأصبح أقل حظا من الاجيال التي سبقته ،
في هذا الوضع المختل ، ضعفت الحركة النقابية في العالم بسبب اعادة صياغة قوانين الشغل واجراءات المرونة وتنامي القطاع الخاص الباحث عن النجاعة على حساب الابعاد الاجتماعية ، ومعها انحسر دور الاحزاب السياسية اليسارية والاشتراكية- الديمقراطية في البلدان الغربية لانها اضحت غير قادرة على الصمود في مواجهة النيوليبرالية بعد سقوط المعسكر الشرقي وغزو العولمة الساحق واهتراء مقومات الدولة الوطنية وتنامي دور الشركات العابرة للقارات ،
فالمشروعان اللذان طبعا البلدان الغربية لعقود اثبتا حدودهما ، وهما ، ربما في حاجة الى اعادة الصياغة ، اذ ان الاشتراكية الديمقراطية عجزت عن الصمود امام المشروع الليبرالي فسايرته دون تحفظ ، مما ادى الى فقدان دورها التعديلي وبالتالي مصداقيتها امام ناخبيها ، والمشروع الشيوعي تحول في كل بلدان العالم من حلم بمجتمع عادل الى كابوس استبدادي ، لخصها الكاتب جورج ارويل بجمالية ادبية نادرة منذ اربعينات القرن الماضي في كتابه «1984»، حين بيّن بأسلوب سوداوي ساخر كيف يتحول الحزب الذي يدافع عن الوطن والبروليتاريا الى سلطة ديكتاتورية تنتهك حياة الناس وتمارس التعذيب وتزور التاريخ.
فالحراك الاجتماعي في كافة بلدان العالم اليوم لا يمثل تحديا للعولمة وانعكاساتها على التشغيل والتفاوت الاجتماعي فقط ، بل كذلك للاحزاب اليسارية التي اصبحت غير قادرة على اعادة صياغة خطابها السياسي،
وليس هذا فحسب ، بل هناك ظاهرة لفتت انتباه المحللين الاجتماعيين ، ظاهرة ما يمكن أن نسميه «بالسياسة المباشرة» اذ بالتوازي مع ضعف المشاركة السياسية ، تتصاعد الحركات الاجتماعية كطريقة تعبيرية جديدة ، يعتبرها الباحث الاجتماعي ،اريك نوفو في كتابه «سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية « اقتناعا لدى الفئات المهمشة ، وخاصة الشباب، بان الحركة المباشرة اكثر جدوى من اللجوء الى الاحزاب السياسية ، وان سرعة تحركها وتنقلها وردودها تجعلها أكثر فاعلية ونجاعة من بيروقراطية الاحزاب ،
اصف بيات ، استاذ علم الاجتماع المعاصر في الجامعات الامريكية ، يعتبر ان الحركات الاجتماعية هي حركات اصلاحية ، ولا يمكنها الارتقاء الى الفعل الثوري الذي يغيّر الواقع ، ويؤسس الى نظام سياسي جديد ، وهو نفس الرأي تقريبا الذي يقدمه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي ،ادغار موران ، الذي يفرق بين الانتفاضات «المحدودة» ، التي هي «تعبيرات عن غضب» وبين الثورات التي تحمل مشروعا مناقضا للسائد وبديلا ، فالانتفاضات التي تجتاح العالم اليوم هي «نتاج للقمع الاقتصادي والسياسي» ، في نفس الان ، هذه الحركات العالمية ليست مدركة لحجمها العالمي ، اي ليس لها وعي بالمصير المشترك الذي يربطها ، انها مشاريع أشبه بواحات متناثرة، لا ترتبط باي تنسيق وتشكو ، في الوقت ذاته ،غياب الفكر السياسي.»
الا ان الخطر يكمن في ان الفراغ الذي تركته الاحزاب التقليدية وغياب المشروع البديل لدى الحركات الاجتماعية قد أفسح المجال للتيارات الشعبوية ، لتكتسح جل بلدان العالم ، بما فيها الديمقراطيات الغربية ، وهي حركات تكن العداء للنخب السياسية الموجودة، مستغلة مشاعر الغضب لدى عامة الناس ، لتفرض ما اسماه الرئيس الامريكي دونالد ترامب ، «الارادة الشعبية» ، هذا الاكتساح يثير مخاوف كل المتمسكين بقيم الديمقراطية،،
يرى عزمي بشارة محقا ان هناك ازمة للديمقراطية الليبرالية حيث يؤدي تفاقم عدم الثقة في الاحزاب الذي يصاحبه تزايد وزن العنصر الشخصي في السياسة ، اضافة الى الدور الذي يمكن ان يلعبه الاعلام المرئي ووسائل التواصل الاجتماعي الى صعود عناصر غير متحزبة ، تتكلم «لغة الشعب» ، فيصعد السياسي الهاوي ويصبح نجما ، مما يؤدي الى ضرر كبير بالمؤسسات الديمقراطية نفسها ، وطبعا لا ينجح هؤلاء الاشخاص في اعادة الثقة ، «بل يعمقون ازمة الثقة في المؤسسات الديمقراطية «.
نحن اذن في عصر ثلاثي الابعاد ، احزاب سياسية تخسر مواقعها وحركات اجتماعية لا برنامج لا تمتلك بدائل واضحة ، تتصاعد اصواتها لتخفت احيانا بعد الإنهاك ، وشعبوية صاعدة، تردد صدى شعارات فضفاضة و لا تمتلك الا اجابات سطحية و بسيطة لمسائل اقتصادية واجتماعية معقدة ، تستهوي السواد العام من الشعب ، مستغلة الفراغ السياسي حولها لتحاصر الديمقراطية عبر ...صناديق الاقتراع .