التاريخية الكليّة على معالجة إشكالية قديمة جديدة أثارت ولا تزال اهتمام الباحثين، سواء أولئك المحسوبين على العلوم الإنسانية والاجتماعية أو المنتسبين إلى المعارف الاقتصادية والقانونية. واتصل ذلك تحديدا بموضوع الدولة، ذاك الذي ربطه مؤلفنا بتفسير مسألتين حارقتين ضمن راهن التونسيين هما قضيتا الثورة والحداثة. والبيّن من خلال متابعة الشواغل التي شدّت فعل الكتابة لدى مؤلف هذه العروض المعرفيّة تعويله في إتمام بحوثه على مفاهيم ونماذج تحليل مبتكرة بغية الخروج بجملة من الاستنتاجات المهمّة التي يُنتظر أن يُسهم نشرها في توسيع دائرة النقاش وتوطين ثقافة سياسية متينة، منخرطة قولا وفعلا في المسار الكوني للحداثة دون الانزلاق في التجني أو التصديق على التصوّرات الإقصائية.
ولئن ثبت لنا حال قراءة أقسام هذا العمل الثلاثة، تلك التي خضع عرضها لخطة زمنية تطوّرية وصياغة تركيبية عوّلت على تغيير المقاييس وعدم اجتناب المقارنات حال إجراء عملية التحليل التاريخي بالاستناد إلى تجارب متنوّعة تحيل على التاريخ السياسي لفضاءات متباعدة ضمت المجالات الأوروبية والعربية والأمريكية اللاتينية والافريقية وكذا الجمهوريات الآسيوية الجنوبية الغربية الناسلة عن انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن عرضه التركيبي لم ينزلق في دعاوى التبحّر ولم يبرح بالمرّة مقصد توضيح التحوّلات التي طالت الدولة التونسية منذ الفترة الوسيطة المتأخرة وطوال الفترتين الحديثة والمعاصرة تحديدا. وهو ما شكّل عنصرا واسما للمعرفة التاريخية وخاصة المتصلة منها بتخصصي التاريخ الحديث والمعاصر حال «تونسة» الجامعة وبروز بواكير أطروحات آبائها المؤسسين.
فقد برز بالخصوص المنجز التاريخي لمحمد الهادي الشريف ولمختلف المحسوبين على توجهاته المتأثرة بمدرسة الحوليات الفرنسية أو ما عرف لاحقا بشظايا اليسار وفقا للتصوّرات المنهجية البنيوية التي صاغها كل من «فرناند بروديل Fernand Braudel» الذي ركّز أبحاثه على دور المتوسط بوصفه فاعلا تاريخيا و«هنري بيرين Henri Pirenne » الذي كشفت أبحاثه المجدّدة أنه من دون اتمام قراءة سياقية دقيقة للمنجز التاريخي لنبي الإسلام محمد شرقا ليس بالوسع فهم تجربة شرلماني Charlemagne الإمبراطورية غربا.
يعتبر مؤلف هذا الكتاب أن لاطلاعه على أبحاث كل من «تشارلز تيلي Charles Tilly» و«ارنست غلنر Ernest Gelner» حول مسار عقلنة مؤسسات الدولة الترابية غربا، وتضافر ذلك مع تعرّفه وبعد تقدم أبحاثه على مختلف المعطيات والتصورات التي أوردتها فاطمة بن سليمان ضمن أطروحتها بخصوص بناء المجال السياسي للبلاد التونسية وتشكّل هويتها الترابية تدريجيا منذ القرن السابع عشر، قد مثل عنصرا محفّز لتطوير مشروعه الشخصي بخصوص مسار عقلنة أجهزة الدولة الترابية الحديثة تونسيا ومؤسساتها الحيوية، وهو ما ينهض حجة على عدم تماثل دواعي البحث بين فرضياته الخاصة، وتلك التي طبعت تمرين أطروحة «الأرض والهوية: نشوء الدولة الترابية في تونس، 1574 - 1881».
والبين بعد جميع هذا أن الاختراق المعرفي الذي حققته أبحاث مؤرخ بناء مجال الدولة الفرنسية «دانيال نوردمان Daniel Nordman»، هي التي كانت فيما نتصوّر وراء هذا الانقلاب في معالجة ما وسمته أرشيفات الدولة التونسية بـ»التحييز المجالي» وهو ذات ما نعته مؤرخو المغرب الأقصى بإشكالية «تدبير المجال»، ذلك الذي تواصل البتّ بشأنه لاحقا ضمن العديد من الأبحاث الجزئية والتركيبية، على غرار تلك التي خصّ بها تونسيا عبد الحميد هنية مسألة ديناميكية التحديث المستقل، مفنّدا فرضيات التحاليل التي اقترحتها الدراسات المدافعة على أولوية التحديث الفوقي المستورد في أبحاث «برترناد بادي Bertrand Badie» و«جون بيار بيارJean Pierre Bayard» على سبيل المثال.
لم يخرج ما استدعته مقاربة مؤلف هذا الكتاب من مفاهيم ومصطلحات عامة عمّا هو معروف في غير اللغة العربية، غير أن عملية توطين مجملها ضمن هذه الدراسة التطبيقية، هو ما ساهم ولا جدال في مزيد تعريف القارئ العربي بها من خلال تثبيتها أو/ و«أهلنتها indigénisation» ضمن مفردات الثقافة التاريخية والسياسية العربية.
ولئن عاينت هذه المعالجة التركيبية وفي مواقع متعدّدة بعض التكثيف النظري واحتاجت العديد من التصوّرات أو الفرضيات التأويلية التي اقترحتها إلى سند مصدري أشمل وأدق، أو إلى إحالة واضحة على معالجات متقاطعة مع تصوّرات المؤلِف وردت ضمن مؤلفات غيره من العارفين بنفس الموضوع، وكذا إلى بعض شهادات الفاعلين أو المتابعين للشأن العام من التونسيين وغيرهم، فإن فسح المجال بشكل توظيفي للمقارنات الافقية وخاصة المتّصلة من بينها بتجارب تحديث الدولة عربيا (المغرب ومصر) وإنجاز الثورة أوروبا (البرتغال اليونان وإسبانيا) والانتقال من الأنظمة العسكرية أو الدكتاتورية أمريكيا (الأرجنتين والشيلي)، قد ساهم في إكساب العروض التي نحن إزائها نَفَسًا عميقا، بل وطرفة يعزّ حضورها لدى غيره من البحوث التي آثرت تناول نفس الإشكالية والكتابة حولها في لغة أصحابها الأم.
يكتب عادل اللطيفي بلغة بسيطة تقترب كثيرا من اللهجة البيضاء، حتى وإن احتاجت في بعض مواضع التحليل أو التوصيف إلى الاحتفاظ بمسافة أمان كافية، تسمح بالتفريق بين اتزان لغة المعرفة وحرارة السجال السياسي المحسوب على آنية التحاليل الصحفية، وكذا تلك التي يقترحها متابعو الشأن السياسي والمدني عبر وسائل الاتصال المكتوبة والمرئية والافتراضية، تلك التي تحيل على ما تقترحه علينا كونيا محركات البحث الكبرى وشبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية أيضا. وهو أمر جد منطقي إذا ما رعينا انقلاب المشهد المعرفي بالتوازي مع اتساع نطاق الثورة المعلوماتية. فنحن نستطيع تعقّل تعاظم تأثير تلك الثورة راهنا من خلال الاطلاع على تحاليل العارفين بما نعته الباحث الفرنسي في مستقبل
البرامج التعلميّة أو مخابر التأهيل الرقمي « دومينيك بولّيي Dominique Boullier» بـ «الدراسات الاجتماعية المرقمنة social data sciences»، حيث أضحى الباحث في العلوم الاجتماعية إزاء الترفيع في نسق الحصول على المعلومة شبه معزول في برجه العاجي، لكأنه قد أعرض عن البحث عن المعطيات المتجدّدة بخصوص سرعة التحوّلات التي طالت المجتمعات كونيا، معتبرا أن ما تعيشه تلك المجتمعات من تحولات فارقة وسريعة راهنا مجرد ظواهر سطحية ليس لها كبير تأثير على الواقع، مما ينهض حجة على أن مختلف علوم الإنسان والمجتمع تعيش على أيامنا حالة من الانقطاع التام عن واقعها قد لا تؤهّلها مستقبلا لأن تلعب دورها المعهود بوصفها سلطة مضادة، خاصة وقد فضّلت العديد من الشرائح الشابة
الابتعاد عن هذه التخصّصات والتوجّه نحو معارف جديدة عبّرت عن قدرتها على المواكبة والتَغْصين بشكل أفضل.. فالتحدّي الحقيقي الذي تواجهه مختلف المعارف المحسوبة على العلوم الاجتماعية حاضرا هو استنباط مناهج عمل جديدة تسمح للمحسوبين عليها بمتابعة هطول المعطيات بذلك النسق الجنوني، مع توفّر القدر المطلوب من الناجعة في إتمام تحليل البيانات في الإبان. وهو ما لم يكن أحد يتصوّر حصوله بتلك الكيفية، الشيء الذي أحدث انقلابا تاما في المقاييس الزمنية وأشكال تصرّف جديدة في المعارف الاجتماعية تتوافق مع الحجم الخرافي للمعطيات المتوفرة. فقد ساهمت التطوّرات التي طالت العلوم الإحصائية على سبيل المثال لا الحصر في فتح أفق دراسة تحوّلات الرأي العام على المدى المتوسط، أي خلال
فترة زمنية لا تتجاوز أربع أو خمس سنوات، وهي المدة التي تتوافق مع المواعيد الدورية للانتخابات ومع العمر الافتراضي لعدد كبير من البضائع المعروضة في الأسوق أيضا. ويتمثل الهدف من ذلك وفقا لما أكدته أراء المتابعين لهذا الانقلاب المعرفي دائما في مزيد فهم ردود فعل الناخبين والمستهلكين وقدراتهم الشرائية وأذواقهم بل وممارساتهم الحميمة أيضا. لذلك ازداد إقدام الشركات الكبرى والمؤسسات الإعلامية والتواصلية على تمويل مثل هذا النوع من الدراسات التي وظّفت مزيدا من الأدوات التكنولوجية الحديثة على غرار اللجوء إلى تطوير الهواتف الذكيّة في عمليات سبر الآراء، في حين يتواصل دور وسائل الاعلام المسموعة والمرئية من جانبه في توسيع انتشار الحملات الإشهارية أو الانتخابية.
جرب المؤلف ضمن أثره الجديد إذن العديد من النماذج المعرفية واستطاع بمستويات متباينة من التوفيق ملاءمتها مع موضوع بحثه. كما أوحت لنا قراءة ما نضّده من عروض بقدرته على مجادلة العديد من وجهات النظر المعرفية والاستنتاجات المتسرّعة غير الدقيقة، متدخّلا في العديد من المناسبات لتصويب طروحاتها المحسوبة على العلوم السياسية وعلى القانون الدستوري وعلوم الاقتصاد وغيرها، على غرار دراسات كل من عياض بن عاشور، وبكار غريب، وهنري لورنس، وفنسان جسيير، وجون فيليب برا، وميشال كامو، وفرنسوى بورقا، وأوليفي روا، وإريك غوب...وغيرهم)
وكذا الأمر بالنسبة للمقابسات الفكرية لكل من هشام جعيط، وعبد الله العروي، وعزيز العظمة، وسمير قصير وهشام شرابي وفرانسيس فوكويما وسمويل هونتغتن وميشال فوكو وإريك هوبزباوم وجوفري بركير وشارلز تيلّي...وغيرهم كثير، دون تهيّب من موقع أصحابها ضمن المشهد المعرفي باعتبارهم «نجوم مركبات جامعيّة stars de campus» أو شخصيات فكرية كونية مرموقة.
ولئن بدت لنا مدونة البحث المصدرية متواضعة عامة، فضلا عن إغضاء المؤلف عن الإشارة إلى عدد من المعالجات المتضامنة فكرا وتصوّرا مع توجهاته المعرفية والفكرية أيضا على غرار مؤلفات العديد من الباحثين والكتاب المحسوبين على جيله، فأن الجهد التوليفي المبذول قد اتسم بالاستثنائية وانخرط بالكامل في استنطاق السردية الجماعية وفق تصوّرات وإضاءات جديدة، استفادت قطعا من مجهود المراكمة المنجز من قبل المختصين في الدراسات الحضارية وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية تونسيا حول تشكّل «الدولة الترابية الحديثة».
كما أن تشديد المؤلف على تلازم لحظة الثورة مع عملية احتضانها المعقّدة من قبل هياكل الدولة المدنية الحديثة وإدارتها، واستناده على ذلك المعطى المركزي في محاولة تفسير ما حصل من تآكل للفئات الوسطى، تلك التي شكّلت على المدى الطويل الخزان البشري المؤازر لمشروع الإصلاح والتحديث تونسيا، وانحسار أفق تلك الفئات المتحفّزة قياسا لتعاظم دور وجاهات المال والأعمال وامتداد شبكات الزبونيّة داخل مفاصل الدولة وخارجها، هو الذي مكّن المؤلف من تعيير المدّ الاحتجاجي لما وُسم تضليلا بـ «الإسلام السياسي» أو بالإسلام الديمقراطي»، وذلك من بوابة الاعتبار بالشرط التوجيهي المتمثّل في مدى التزام ذلك التيار موضوعيا، قبل حدث الثورة ومن بعده، بمشروع التحديث ومسار «التّونسة»، والتزامه بتطويرهما من عدمه، توضيحا «للصبح الصادق» ممّا سواه، حتى يتمكّن التونسيون دون تحامل أو إجحاف من ربط ذلك الزخم الاحتجاجي بمسار الثورة أو فصله عن ذلك وتصنيفه ضمن خانة الثورة المضادة.
خلاصة القول فقد تمكّن عادل اللطيفي بعد بذل أقصى درجات الأناة والمصابرة من إعادة فتح ملف ساد الاعتقاد في انقضاء فصله بالكامل، لكن اصراره على التجديف ضد التيار بتحفّز وانقلابية لا حدّ لهما، هو ما مكّنه من نفض الغبار عن موضوع بدا وكأنه قد قُتِلَ بحثا، والبرهنة من خلال ذلك عن حاجتنا لمواصلة الحفر في إشكالية الدولة فكرا ومعرفة، لذلك لا يعترينا أدنى شك في قيمة هذا المنجز وفي طرافته أيضا، وهو الذي سيشكل بلا ريب إضافة معيارية لمختلف مقترحات دار مسكيلياني، المعروضة بعد التدقيق والتشذيب اللازمين على واسع قرائها.