الطرح أن مبدأ استقلالية البنك المركزي مسألة جديدة تاريخيا ومرتبطة بهيمنة النيولبرالية التي حلت محل الكينيزيانية. ويعتبرون أن مقاومة التضخم المستورد غير ممكنة من خلال السياسات النقدية، وأن البنوك التجارية تحصل على أرباح مجحفة على حساب دافعي الضرائب من خلال تمويل الدين العام، وأن النمو الاقتصادي يفترض سياسات نقدية توسعية، وأن العملة ليست محايدة.
ورغم ما يوحي به هذا الخطاب من تماسك، فإنه يخفي تهافتا كليّا. أوّل عناصره أن مبدأ استقلالية البنك المركزي ضارب في القدم. ومن يقول العكس يخلط بين القاعدة والاستثناء. فتاريخ الاقتصاد لم يبدأ بعد الحرب العالمية الثانية. فللتذكير، فقد كان صكّ العملة من قبل أصحاب السلطة مقيدا تاريخيا بكمّيات المعادن الثمينة المتوفّرة. ثم لا ينبغي أن ننسى أن فكرة البنك المركزي، التي ظهرت في بريطانيا عام 1694 ثم في فرنسا عام 1776، إنما جاءت أساسا لوضع حدّ لإفلاس الدولة وعجزها عن دفع ديونها. ولو كانت السلطة تملك القدرة المطلقة على التحكّم في حجم العملة لكانت فكرة إفلاسها أمرا مستحيلا.
وبما أن التاريخ الاقتصادي طويل ومعقد، نكتفي بهذا القدر. إذ لا بد من الإجابة على أكثر حجج معارضي استقلالية البنك التونسي تركيبا: ألا وهي التمييز بين التضخم المستورد والتضخم المحلّي. يمكن القبول بفكرة التضخّم المستورد اجتماعيا من أجل التأكيد على أن التضخم لا يضرّ الجميع بنفس الحدة. والمثال على ذلك أن من يملك عائدات بالعملة الصعبة يتجنب كثيرا تبعات آفة التضخم. ولكن من الغريب حقا أن يعتقد البعض أن لهذا التمييز انعكاسات أساسية على المستوى الاقتصادي.
إليك مثالا. فلنتخيل أن الدينار التونسي يساوي دولارا أمريكيا وأن نسبة التضخم في تونس تعادل 10 % في حين أنها 0 % في الولايات المتحدة. بعد مرور عام، إذا بقي مستوى الدينار معادلا لمستوى الدولار، فذلك يعني ببساطة أن الدينار التونسي قد ارتفعت قيمته عمليا. والدليل على ذلك ما يتكبده المنتوج التونسي من فقدان جزئي للقدرة التنافسية بحكم ارتفاع تكاليف الإنتاج بالمقارنة مع المنتوج الأمريكي الذي لم يواجه أي تخضم. وللمحافظة على نفس مستوى القدرة التنافسية لا بد من أن تتراجع قيمة الدينار بنفس قدر الفارق في التضخم.
إن الاقتصاد لا يهتم كثيرا بأسماء وحدات القياس. المهم أولا وأخيرا هو البعد الحقيقي. والبعد الحقيقي الذي يعنينا هنا هو القدرة الشرائية لكل عملة. وعلى هذا الأساس، ليس من العسير أن نخلص انطلاقا من المثال المذكور إلى أن تراجع قيمة العملة يؤدي أيضا إلى التضخم وارتفاع الأسعار. ربما تستثنى من ذلك السلع التي يمكن انتاجها محليا بنسبة 100 %. وهي سلعة لا توجد تقريبا إلا في مخيلة من يدّعون الوطنية الاقتصادية. فلتر من الحليب يمكن انتاجه في تونس. ولكن تكلفة إنتاجه وترويجه تبقى مع هذا في تأثر جلي بمستوى العملة التونسية في مقابل العملات الأجنبية التي نحتاجها للحصول على العلف والأدوية وباقي الوسائل البيطرية ومصادر الطاقة الضرورية ووسائل النقل وقطع غيارها. وذاك قليل من كثير من العناصر التي تساهم في ارتفاع أسعار الحليب في تونس لمجرّد تراجع القدرة الشرائية للدينار التونسي.
ولا بد أيضا من الرد على الحجة القائلة بأن دافعي الضرائب في تونس يتكبدون خسائر تعادل أرباح البنوك التجارية الممولة للدين العام. ولا اختلاف في أن طباعة النقود بقرار سياسي وباستجابة آلية من البنك المركزي أقل تكلفة. ولكن هذا فقط على المدى القصير. فلا بد أن يتذكر الجميع أن دور البنك المركزي الأساسي هو مقاومة التضخم من أجل الحفاظ على الاستقرار والثقة. أي أنه ليس وسيلة لتمويل جنون الإنفاق. أما الحكومات، فإنها في نهاية المطاف تنتهي دائما إلى الاقتراض بأسعار الفائدة التي هي بها جديرة. وما على الدولة إلا تقوية وضع ماليتها العمومية وتشجيع المنافسة بين البنوك التجارية إذا كانت تريد الحصول على أسعار فائدة منخفضة سواء أكان ذلك داخليا أو خارجيا.
• استقلالية البنك المركزي والديمقراطية
إن استقلالية البنك المركزي أهم في سياق الديمقراطية. ذلك أن الدكتاتورية تفرض وجودها بالقوة. أي أن وجودها ليس رهين الوضع الاقتصادي على المدى القصير. في المقابل، تتعرض الحكومات الديمقراطية إلى اختبارات انتخابية لا تملك لخوضها غير قوة حججها والتقييم العام لحصيلتها الاقتصادية والاجتماعية. وعليه، فإن إغراء اللجوء إلى سياسات نقدية توسعيّة تنحو إلى مضاعفة الانفاق العمومي من أجل شراء الدعم الشعبي يبدو واضحا، خاصة قبيل المراحل الانتخابية. والتجربة العملية تثبت بما لا يدعو للشك أنه مهما قال السياسيون عن حرصهم على سلامة العملة، فإنهم لا يقدرون على مقاومة هذا الإغراء. وعلى فرض أن يمثل السياسيون التونسيون استثناء تاريخيا في هذا الصدد، فذاك لا يكفي. إذ أن مجرّد طرح فكرة التراجع عن استقلالية البنك المركزي يكفي لبعث رسالة سلبية من شأنها أن تضعف الثقة المهزوزة أصلا في الاقتصاد التونسي.
قد يقال: لا بأس! أو ليست السياسات النقديّة التوسعيّة ضرورة للنهوض بالاقتصاد؟ كلا! فالمسألة مرتبطة بالسياق. إذا كنت على رأس اقتصاد كبير ذي عملة صلبة، فمن الممكن أن تؤدي زيادة السيولة إلى دعم الاستهلاك الداخلي. ولكن العولمة قد قلصت كثيرا من فعالية هذا الأثر الإيجابي، خاصة في الاقتصاديات الصغيرة ذات العملات الهشة. ولسائل أن يسأل: لماذا يخاطر مستثمر أجنبي بثروته من خلال تحويلها للدينار التونسي إذا كان غير متأكد من الحفاظ على قيمتها؟
إن مشكلة الاقتصاد تتمثل في أن السياق هو الذي يفرض النتائج. ومن ذلك أن قيمة منجم من الألماس في كندا تساوي أضعاف قيمة منجم أكثر ثراء منه في جمهورية الكونغو الديمقراطية. لماذا؟ إنها الثقة، وإنه الاستقرار. وتلك هي المحدّدات النهائية للقيمة.
يقودنا هذا للملاحظة المشحونة إديولوجيا: العملة ليست محايدة. طبعا! العملة ليست محايدة. ولكن لا بد من السعي إلى أن تكون كذلك. فما هي أدوار العملة؟ على المستوى الوظيفي، لها دوران. إذ أنها أولا وحدة قياس للقيمة. ومن ثمّة تتأتى ضرورة الاستقرار. كما أنها أيضا وسيلة الإقراض. وهو ما يجعل الثقة فيها أمرا حاسما.
والخلاصة أن العملة ليست ملكا للسياسيين حتى يسمح لهم بالتلاعب بها كيفما أرادوا. إنها ملك جماعي، وقيمتها مرتهنة بمدى استعداد الناس للثقة في أوراق لا تملك قيمة في حد ذاتها.
وعلى عكس ما يوحي به مناهضو استقلالية البنك المركزي، يشكل التضخم خطرا كارثيا. فإذا كان ضعف النمو يحول دون الإثراء، فإن خروج التضخم عن السيطرة يؤدي إلى الإفقار بتدمير الثورات الموجودة أصلا.