اذ ما يحدث في الحقيقة امر لافت ويعبر عن تعقد غير مسبوق ليس في تشكيل الحكومة والعلاقة بين الحزب المكلف ورئيس الحكومة المكلف فحسب، بل ايضا في سياق الصراع داخل حركة النهضة. وقد لخص عبد اللطيف المكي ما يحصل في تدوينة مختصرة فسخها لاحقا: «ادعو الى دورة شورى سريعة للنظر في الوضع غير المسبوق». التضارب حقيقة هو بين الجملي مع حزام تشكل حوله داخل النهضة نفسها، ورئيس الحركة وحزامه المتقلص داخل الحركة ولكن ايضا حزامه خارجها. خليط معقد يذكرنا، على ضوء ضحكة ساخرة من التاريخ، بما حدث في «نداء تونس». لكن الفرق ان العائلة في هذه الحالة تفرقت اكثر.
• الجملي كما يراه الشيخ: «سيندروم» الشاهد
يجب ان نعود الى ملابسات ترشيح الجملي ذات مجلس شورى يوم 14 نوفمبر الماضي اثر انتخاب رئيس حركة النهضة رئيسا للبرلمان. يمكن ان نعتبر الان ان هذا اليوم هو بداية نهاية السطوة الكلية لشيخ الحركة على مفاصلها. كان انشغاله بقطف ثمرة رئاسة البرلمان ضاغطا الى درجة جعلته يفقد التركيز. توجد روايات كثيرة عن ظهور الجملي الفجئي في قائمة المرشحين، خاصة بعد طغيان اسماء منجي مرزوق ورضا بن مصباح والحبيب الكشو. لكن الروايات تلتقي في الدور الرئيسي الذي لعبه المستشار السابق في القصبة، والمكلف عادة بالملف الاقتصادي وخاصة تشبيك العلاقات مع اوساط الاعمال، رضا السعيدي. دافع الاخير بقوة على الجملي وظهر في الصورة بوصفه محاميه، وبقي حتى الان مساعده الرئيس مع الحبيب الدبابي في الكواليس وقناته الرئيسية مع الاطراف النهضوية التي بقيت داعمة له. من الواضح ان حلفا معقدا تشكل في ذلك الشورى لابعاد منجي مرزوق، الذي كان اقرب للترشيح قبيل الاجتماع، رغم ان رئيس الحركة كان يفضل رضا بن مصباح، في انسجام مع استراتيجيته التي تضع بيض الحركة اساسا في عش المنظومة القديمة.
لم يكن مقترح بن مصباح خاصة بعد بضعة اسابيع من حملة انتخابية استدعت شعارات الثورة، لم يكن يروق للمزاج العام للشورى. لم يحسب الشيخ جيدا اجواء اللحظة، وكان على «الاخرين» (وهم خليط من المتنافرين عادة اختاروا الالتقاء للضرورة وميزتهم المشتركة انهم خلفاء محتملون للشيخ في قيادة الحركة) القيام بمناورة خلفية، تجاوز الرئيس، واستدعاء مرشح «مقبول» ويضمن «الولاء»، بعكس مرزوق الذي وصل البعض في ذلك الشورى الى حد «اتهامه» بالولاء لحزب التيار الديمقراطي (مثلا روج احدهم انه كتب برنامج «التيار» الانتخابي، وهو امر مجانب للحقيقة). وتم في هذا السياق اخراج الجملي من علبة الباندورا. هنا الانطباع كان على الارجح، شخصا يميل الى الولاء الى من ينتدبه، بدون افق مهني (امتنعت شركته الام «الوردة البيضاء» عن اعادة انتدابه بعد مغامرة «كتابة الدولة» للفلاحة وانزوى عموما في ضيعته في ارياف القيروان)، ويشهد له بالاستقامة زملاؤه قديمو العهد من الاوفياء للحركة مثل الهادي صولة، ولم يبتعد عن النهضة بعد خروجه من الحكومة اذ كان ضيفا متواترا على «مكتب الاطارات».
على الارجح لم يحسب احد حساب «تمرد» الجملي يوما ما. لكن رئيس الحركة رغم المفاجأة بالمناورة والانسياق لها ودعم الجملي رسميا. قرر رئيس الحركة التحكم في مفاصل الحكومة عبر مرشحين من دائرته الضيقة يزيكهم مباشرة، وتضمنت قائمته انور معروف واحمد قعلول وبسمة الجبالي وسيدة الونيسي. لكنه بقي ايضا مشكاكا. وهكذا طرح «وثيقة تعاقد» مع الجملي، ومن بين بنودها تعهده بالاستقالة عندما تطلب منه الحركة ذلك. لا يمكن ان يوجد مؤشر على محدودية ثقة الشيخ في الجملي اكثر من ذلك. والجملي لم يخيب ظنه، اولا رفض الامضاء على الوثيقة وتمسك بذلك الى الان، وايضا قرر عدم الموافقة على مرشحي الشيخ. ما حصل على ما يبدو هو خليط من الاشياء. عندما كانت المفاوضات بين الاحزاب الاربعة تتهاوى وانتهت الى انفضاضها، تم استحضار السيناريو الاخر الذي كان يتم بشكل مواز، أي حكومة «كفاءات مستقلة» وهو في الاصل مقترح نبيل القروي على شيخ الحركة ذات 7 اوت. تمسك القروي بالمقترح وقدم مرشحون زكاهم بوصفهم «مستقلين» سيرهم الذاتية الى الجملي. والاحد ليلا عندما تم اعلان التيار والشعب الانسحاب من المفاوضات، وفي اجتماع المكتب التنفيذي للنهضة تم اليا استدعاء ذلك الخيار، لكن مع اضافة «مفتوحة على الجميع» بمعنى انها تضم المستقلين والمتحزبين على السواء. لكن في خضم فوضى المفاوضات لم يطق رئيس الحكومة المكلف المناورات والمناورات المضادة، في خضم ذلك ولد السياسي فيه. قدر مع آخرين، منهم السعيدي لكن من ورائه بعض الخلفاء المحتملون لرئيس الحركة، انه رقم صعب، وانه ايضا يستطيع فرض شروطه.
هكذا ركب الجملي على النغمة السائدة شعبيا المعادية للاحزاب، ليعلن في ندوة صحفية موازية للقاء قيس سعيد الاخير مع الاحزاب الاربعة انه سيشكل حكومة «مستقلة عن الاحزاب.. جميع الاحزاب». وقام بفسخ كل مرشحي الشيخ في الايام الموالية امام دهشته ودهشة حلقته الضيقة. كانت تلك الشعرة التي قصمت ظهر البعير. وساند الجملي في ذلك صهر الشيخ رفيق عبد السلام والذي كان احد عناصر الحلقة الضيقة، قبل ان يعدل بوصلته وينضم الى الحلف الجديد، حيث نظم في مركزه ندوة ضمت عددا من الوجوه المقترحة للحكومة قبل اعلانها، ويتمسك الى الان بحكومة الجملي رغم معارضة الشيخ. كان الاسبوع الماضي ثقيلا على رئيس الحركة، تأكد بما لا يدعو للشك انه خارج صناعة السياسة داخل حركته، وانه عمليا لم يعد رئيسها، بل ان اقرب عناصر حلقته بدؤوا في القفز الى المركب الاخر.
أصبح الجملي في مرأى رئيس الحركة «شاهدا اخر». يتذكر هو جيدا تلك الحلقة من مسلسل حقبة النداء، «سيندروم» الشاهد شارك فيه هو، وكان نقطة انتهاء «شيخ النداء» المرحوم قائد السبسي. انتهت شروط الثقة في الجملي، واصبح عنوانا لنهاية رئيس الحركة، وصمم حينها التحضير للسيناريو الاخر. وللمفارقة سيحتاج الشيخ الى الشاهد هذه المرة لاستكمال السيناريو.
• قيس سعيد في مواجهة حزام الشيخ-قلب-تحيا؟
كان التحضير حثيثا لقلب الطاولة على الجملي. حرص المشاركون في الشورى يوم السبت الماضي عدم الضغط على رئيس الحركة الذي بدا متعبا، وكان هناك ارادتان تتصارعان: ارادة حماية الجملي وارادة محاصرته. وعموما خرج كل طرف بما اراده. «دعم الجملي» تم وضعه الى جانب «تعديل الحكومة»، بمعنى اخر يمكن لرئيس الحركة ان يؤول قرار الشورى بان «الدعم» مشروط بـ«التعديل». وتم في المداولات حتى طرح وزارات بعينها للتغيير ومنها التربية والشؤون الاجتماعية. في المقابل اعترض الجملي ذات الصباح في حوار اذاعي علني على اجراء اي تعديلا. هذا اضافة الى التعقيدات الدستورية حول احقية رئيس الحكومة المكلف بالتغيير بعد ارسال رئيس الجمهورية الرسالة الى البرلمان. لم يترك رئيس الحركة الوقت يمر، اجتمع بمكتبه السياسي يوم الاثنين واجتمع اثره بيوسف الشاهد في مقر الحركة وقرر التحضير جديا للسيناريو البديل. واجتمع اثر ذلك كل من الشاهد والقروي على حدة بالجملي للضغط.. تقرر اعطاء مهلة للجملي يوم الاربعاء، وطرح حتى فكرة تأجيل الجلسة العامة للبرلمان المقررة يوم الجمعة. في ذات الوقت التحضير للخيار الذي قامت النهضة بمجملها بشيخها ومختلف مجموعاتها برفضه تكرارا، اي «حكومة الرئيس». اصبح هذا الخيار منذ اسابيع قليلة الخيار الذي يهدد به كل طرف الاخر داخل النهضة، واذ بدأ مجرد تهديد، اصبح تدريجيا خيارا ممكنا.
غير ان رئيس الحركة قرر ان يذهب الى الرئيس بحزامه الذي يرتاح اليه، الشاهد من جهة، والقروي من جهة اخرى. جربهما الاثنين، وكلاهما اظهر للشيخ قدرا من الولاء، ضعفا بكل تأكيد وتحت طائل الملفات. ما طرحه الشيخ هو مصالحة بين الاثنين، وهي شرط المضي في هذا السيناريو، والمرجح ان هناك قبولا لهذا الطرح مبدئيا من الطرفين. بل ان لشيخ الحركة مرشح جاهز باسم الحزام الثلاثي، سيقترحه على الرئيس بعد الاطاحة بالجملي. ولنكن واضحين: الخيار ليس الشاهد.
بلا شك نحن ازاء مخاطرة. فليس هناك ما يضمن ان يقبل الرئيس بمرشح او مرشحي هذا الحزام، حتى لو اعتقد الشاهد ان له حظوة لدى الرئيس او محيطه. والغالب ان هذه الحظوة ناتجة عن حاجة الرئيس وفريقه للتعاون مع مؤسسات الدولة كما هي الان لتصريف الامور وليس حبا او هياما بالشاهد. بل ان الرئيس يمكن ان يذهب تحديدا فيما كان يدفع تجاهه في الكواليس اي حكومة تجمع النهضة بالتيار والشعب وتحيا تونس لاغير. ومن ثمة سيختار مرشحا قادرا على الجمع بين هؤلاء، ولن يكون بالمناسبة لا الشاهد ولا ايضا اي مرشح يمكن ان يحيل على شبهات حتى لو اقترب من احد هذه الاحزاب. لكن حجم المخاطرة يعكس اساسا حجم اليأس لدى رئيس الحركة من قدرته على التحكم في حركته. واصبح يرى حزامه خارجها ربما اهم من حزامه داخلها. ومن غير الواضح في هذا الخضم اي تكمن ولاءات كتلة حركة النهضة، مع شيخها ام مع الخلفاء المحتملين. لكن بلا شك نحن ازاء مرحلة خطيرة تمر بها حركة النهضة، واحد اهم عناوينها المؤتمر القادم وخلافة رئيسها. وفي كل الحالات لا يبدو ان الاخير ينوي في عقد المؤتمر قريبا او في اجاله، اذ انه حتى اللحظة لا يزال يمتنع عن احداث «لجنة اعداد المؤتمر» ومن ثمة انطلاق التحضير له.
في كل الحالات هذا الانغماس في الشأن النهضوي بما يجعله محددا لكل المناورات هو الخطيئة الاستارتيجية الاساسية لرئيس الحركة وحتى بعض مناوئيه. كأن تونس جزيرة. في حين هي في مهب امواج عالية متلاطمة من بغداد الى طرابلس فالجزائر.
• الارتجاجات الاقليمية العامل الغائب في حسابات الشيخ:
اقل اثر الارتجاجات الاقليمية على الشأن الداخلي هو احتمال ارتفاع اسعار النفط والاثر المباشر لذلك على الميزانية والاهم على عيش الناس ولقمتهم. التقديرات تقول ان توسع المواجهة بين طهران وواشنطن بشكل او باخر، مباشرة او عبر الوسطاء، سيعني زيادات معتبرة يمكن ان تصل الى الضعف. الميزانية الحالية المرتعشة والمرتهنة بحسابات شديدة الحساسية والرهافة اساسا ستتعرض الى عاصفة حقيقية في حالة تدحرج المنطقة نحو النار. يضاف الى ذلك الوضع في ليبيا، واحتدام الصراع بين القوى الاجنبية برا وجوا. نحن ازاء تهديدات حقيقية لزحف اماراتي-سعودي-مصري قادم من الشرق، لا يستهدف فقط طرابلس، ولا فقط الاخوان، بل اساسا وخاصة التجريب الديمقراطي القائم منذ 2011. ارتال حفتر وشركات المرتزقة الروسية تحمل معها نموذجا للسلطوية الجديدة تحت الحديد والنار. المفارقة ان الشيخ قضى كل السنوات الاخيرة في ابتداع التكتيكات المختلفة لمواجهة صيغ مختلفة بعضها حقيقي وبعضها غير حقيقي للثورة المضادة، ولاستئصال الحركة. غير انه يمتنع الان على مشاهدة الطوفان الوواضح القادم من الشرق.
تشكيل الحكومة لا يمكن ان يتم بمعزل عن هذا السياق. حكومة حماية الديمقراطية ولقمة عيش الناس تستوجب حلفا واسعا من الصادقين.
لنكن واقعيين.
اخطأت واضطربت مختلف الاطراف. لكن حركة النهضة مسكت بسبب موقعها بقدرة المبادرة. تمسكت برئيس حكومة منها رغم معارضة الاغلبية الساحقة من الكتل. ثم تمسكت باختيار رئيس حكومة «قريب منها» اصبح هو مشكلها واعتبرت ان «حكومة الرئيس» مؤامرة على الدستور والديمقراطية. عندما ستصل المسؤولية للرئيس قيس سعيد لن يكون مصدر استشارته الرئيسي رئيس الحركة. توسيع المشاورات يعني ايضا توسيعها داخل النهضة. لا شك ان الرئيس لن يشكل دستوريا الحكومة، لكن بمجرد تكليفه رئيس حكومة جديد سيكون عمليا راعيا للتفاوض، وهو الامر الذي بدأ فيه في اجتماع واحد مع الاحزاب الاربعة وتم اجهاض التجربة في مهدها. هو لايزال يحمل معه منسوب ثقة، وكل من يرى ذلك تهديدا له هو مخطئ. ذلك منسوب ثقة التجربة الديمقراطية ككل وليس الرئيس في ضخه حصرا.
بقلم: طارق الكحلاوي
جامعي وناشط سياسي مستقل