قهوة الأحد: الديمقراطية وأزمة الثقة

تعيش بلادنا أزمة سياسية خانقة منذ نهاية الحملة الانتخابية والإعلان على النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية والتشريعية.

ومن ابرز سمات هذه الأزمة التشتت الكبير للساحة السياسية مما سيجعل تحقيق التحالفات الضرورية لإدارة الشأن العام صعبة المنال والتحقيق. كما أن الصعوبات التي نعرفها لتشكيل الحكومة احدى السمات الأخرى والهامة لتدهور الوضع السياسي وانخرامه.
وفي ظل هذه الأزمة والضبابية التي تخيم على المشهد السياسي ظهرت مسألة الثقة لتصبح مسألة أساسية وجوهرية في الخطاب العام. ولئن كانت هذه المسألة حاضرة في النقاش العام منذ مدة بطريقة غير مباشرة فقد أصبح المسؤولون السياسيون يشيرون إليها بطريقة مباشرة ودون تردد في علاقة الأحزاب السياسية ببعضها البعض.فلم تتورّع بعض قيادات الأحزاب عن الإشارة إلى فقدان الثقة لتفسير رفضها وعدم استعداداها للدخول في تحالفات لتشكيل الحكومة وتمكينها من الحزام السياسي الضروري لدعمها ودعم استقرارها .

هذه الصعوبات والتصريحات الواضحة والجلية وضعت مسألة الثقة في جوهر المسألة الديمقراطية والأزمات التي تعيشها اليوم.وهذه القضية ليست مقتصرة على بلادنا بل هي مسألة عامة اليوم وتهم كل المجتمعات الديمقراطية على المستوى العالمي. فقد ظهرت أزمة كبيرة وتراجع مخيف لمخزون الثقة في أغلب الديمقراطيات مما نتج عنه حالة عامة من الشك والريبة والخوف أدت إلى هشاشة المؤسسات الديمقراطية وفقدانها للمشروعية التي ميزت عملها في السابق ومكنتها من فرض هيمنتها وسيطرتها على العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة .

وسنحاول في هذا المقال التعرض لهذه المسألة ولقضية الثقة وأهميتها في المجتمعات الديمقراطية والأزمة التي تعيشها منذ سنوات.وسنحاول التوقف عند ثلاث مسائل أساسية وهي : تحديد مفهوم الثقة وأهميته في المجتمعات الديمقراطية وتطور هذا المفهوم من الناحية العملية والوقوف على أسباب أزمته الحالية ثم الوقوف على بعض محاولات الخروج من هذه الأزمة وإعادة بناء مخزون الثقة .

الثقة في رأيي جملة من العناصر السرية والغامضة التي تبنيها المجتمعات وتؤسس لثقتها في المستقبل وتشكل أساسا هاما للعلاقات الاجتماعية .فالثقة تمكن المجتمعات من حماية نفسها من الأزمات والصعوبات والمخاطر الداخلية والخارجية.فهي تساهم بصفة كبيرة في بناء علاقات التضامن بين الفئات الاجتماعية والمشروع الموحد والضامن للمجموعة الوطنية وفي ضبط قواعد العيش المشترك داخل الدولة .

وتلعب الثقة أدوارا أساسية في حسن سير المجتمعات الحديثة.ومن ضمن هذه الأدوار نذكر سير مؤسسات الدولة والتي تتطلب قدرا كبيرا من الثقة من المواطنين الذين يعطون مسؤولية إدارة الشأن العام للأشخاص المنتخبين.كما أن الثقة مسالة أساسية في المجال المالي والاقتصادي،فهي التي تدفع الناس الى وضع أموالهم في البنوك وعند المؤسسات المالية دون خوف أو تردد. كما أن الثقة هامة في المجال التربوي باعتبار أنها تشجع الناس على التردد على المدارس والمعاهد والجامعات لتلقي العلم دون أدنى شك في محتوى البرامج.كما أن الثقة هامة في المجال الصحي اذ تجعل الناس يرتادون المصحات والمستشفيات والأطباء بدون خوف من العلاج أو من الأدوية التي سينصحونهم بتناولها. والثقة كذلك أساسية في المجال القضائي اذ تجعل الناس يذهبون إلى المحاكم ويتوجهون إلى القضاة لحل مشاكلهم وكلهم إيمان بنزاهتهم وقدرتهم على إعلاء الحق وإبرازه.

إذن للثقة دور أساسي في العلاقات الإنسانية وفي بناء المجتمعات فهي رهان على قدرة الناس في المجتمعات الحديثة على بناء علاقات تعاون وتآخ والنظر إلى المستقبل بكل ثقة.

المسألة الثانية التي أردنا الخوض فيها تهم تطور مفهوم الثقة ومظاهرها العملية .وهنا تشير أغلب الدراسات إلى انه وان كانت الثقة آسرة في القدم وتعود إلى عهود غابرة وقديمة من تاريخ الإنسانية فإنها عرفت تطورات كبيرة على مر التاريخ.ففي المجتمعات التقليدية كانت الثقة مرتبطة شديد الارتباط بالمجال الخاص وبالعلاقات العائلية والقبلية.فكان للثقة طابع شخصي مرتبط بالعلاقات المباشرة التي يربطها الأشخاص بين بعضهم البعض في إطار المجتمعات المصغرة كالعائلة والقبيلة.

إلا أن المجتمعات الحديثة شهدت تطورا كبيرا وتحولات جذرية لمفهوم الثقة التي ستخرج بصفة تدريجية من الفضاء الخاص لتمر إلى الفضاء العام .وستفقد مسالة الثقة جانبها الشخصي والذاتي لترتبط بالمؤسسات الحديثة خاصة في المجتمعات الديمقراطية.ففي الميدان السياسي سترتبط الثقة ببناء المؤسسات الديمقراطية والتي ستصبح الإطار الجامع ومركز ثقل العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة.وستمكن هذه المؤسسات من ضبط آليات وقوانين تضمن حسن سير الأنظمة الديمقراطية وتزيد من ثقة الناس فيها وتدعم مشروعيتها واستقلاليتها عن المصالح الضيقة للأفراد وللمجموعات .

وهذا التطور في التعبيرات الحديثة للثقة لن يقتصر على المجال السياسي بل سيشمل كل مجالات الحياة الاجتماعية كالقضاء والصحة والتعليم والاقتصاد وعالم المال والدفاع والثقافة.فكل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية سيقوم ببناء المؤسسات الضرورية والقادرة على سن الآليات والقوانين الضرورية لضمان حسن سيره.
وتختلف المجتمعات الديمقراطية عن الأنظمة القوية والتسلطية في مخزون الثقة وطرق عملها .ففي الأنظمة الاستبدادية يكون المجال العام محدودا ويتميز بهيمنة وسيطرة السلطة لتقتصر حرية الأفراد وهامش حركتهم وحريتهم على الفضاء الخاص.وتكمن خصوصية هذه المجتمعات في ضعف مخزون الثقة وضعف المؤسسات ووهنها أمام سيطرة وتسلط الأنظمة. وهذا الوضع يفسر إلى حد كبير أزمة الثقة التي تعرفها هذه المجتمعات عند خروجها من الاستبداد وبداية مسار التحول الديمقراطي حيث يزيد ضعف المؤسسات من حدة أزمة الثقة بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين .

إلا إن الظاهرة العامة التي تعيشها كل المجتمعات اليوم تخص تراجع الثقة التي أصبحت تعيش أزمة خانقة وعميقة في كل المجتمعات الديمقراطية .وتبرز هذه الأزمة في مظاهر عديدة ومتنوعة.فتشير عديد استطلاعات الرأي إلى تراجع ثقة الناس في اغلب المجتمعات في المؤسسات السياسية وفي النظام الديمقراطي.كما عرف القضاء والعدالة بصفة عامة نفس التراجع والتدهور في مخزون ثقة الناس.وحتى المنظمات الاجتماعية كالنقابات فإنها لم تنج من هذه الأزمة العامة للثقة.

كما عرفت العلاقات الاجتماعية بين الأفراد تراجعا كذلك لمخزون الثقة .

كل هذه المؤشرات والمظاهر تعبر بشكل واضح وجلي عن الأزمة العامة التي تعرفها المجتمعات الديمقراطية بسبب تراجع الثقة بين الأشخاص وفي المؤسسات الديمقراطية.وستساهم هذه الأزمة الحادة في تراجع الثقة في النظام الديمقراطي وفي صعود القوى الشعبوية في أغلب بلدان العالم.وقد ركز الخطاب الشعبوي نقده للمجتمعات الديمقراطية على خيانة النخب وأزمة الثقة الكبيرة التي تجمعها بشعوبها .

والنقطة الثالثة التي نريد الوقوف عليها تخص محاولات الإصلاح التي قامت بها بعض المجتمعات من اجل إعادة الثقة في المؤسسات الديمقراطية.فقد توصلت عديد البلدان إلى نتيجة مهمة وهي أهمية إصلاح النظام الديمقراطي والمؤسسات الديمقراطية من اجل إعادة بناء ثقة الناس.وهنا نود الإشارة إلى بعض التجارب التي وضعتها بعض البلدان لإصلاح وإعطاء مزيد من الفعالية للنظام الديمقراطي.وأولى هذه التجارب ما يعرف بمسالة حق الفيتو(le droit de veto) الذي تعطيه بعض المجتمعات لمواطنيها للاعتراض على تطبيق بعض القوانين .ففي سويسرا وايطاليا مثلا يعطي القانون للمواطنين للإمضاء على عريضة تمكنهم من إيقاف تطبيق قانون اذا تمكنوا من جمع %1 من الناخبين حتى يقع عرض هذا القانون على التصويت الشعبي من جديد .

كما يمكن أن نشير إلى تجارب أخرى قامت بها ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بريطانيا ما يسمى «Recall of MPs act» أو قانون» عزل النواب» وتعطي هذه القوانين إمكانية عزل النواب قبل نهاية مدتهم النيابية إذا ثبت تورطهم في قضايا فساد أو قضايا أخلاقية او مالية .
يمكن أن نضيف الى هذه التجارب تجربة أخرى مهمة قامت بها فرنسا إثر الأزمة التي عرفتها سنة 2013 واعتراف وزير المالية آنذاك Jérôme cahuzac بارتكابه لجريمة التهرب من الأداء وتحويله لأموال للخارج.لتجاوز آثار هذه الفضيحة على النظام الديمقراطي ببعث مؤسسة اسمها Haute autorité pour la transparence de la vie publique او الهيئة العليا لشفافية الحياة العامة .

وتعطي هذه الهيئة الحق لكل مواطن في التثبت في تضارب المصالح وممتلكات كل الشخصيات العامة .
شكلت هذه الإصلاحات محاولات لدعم المؤسسات الديمقراطية والخروج من أزمة الثقة التي تعرفها كل البلدان وتعيشها أغلب الديمقراطيات والتي تعمق أزمة النظام الديمقراطي وتزيد من حدتها.
إلا أن هذه الإصلاحات- في رأيي- على أهميتها غير قادرة لوحدها على إعادة بناء الثقة في النظام الديمقراطي والتي تتطلب في رأيي كذلك إعادة بناء رؤيا جامعة ومشروع مجتمعي وعقد اجتماعي قادر على إعادة بناء ثقة الناس في المستقبل وعلى إعادة إحياء الأمل في قدرة الإنسان على تغيير الواقع نحو الأفضل .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115