مع وعد بالحماية العسكرية للحكومة الليبية – حكومة السراج - تزامنا مع إعلان حفتر عن بيان ساعة الصفر للهجوم العسكري على طرابلس.
رغم أن لا أحد في العالم يعرف أن هناك حدودا بحرية بين ليبيا وتركيا، لكن الكل يعرف الاندفاع الكبير للسلطان التركي لتوسيع رقعة ومساحة نفوذه وإصراره على لعب دور أساسي في المنطقة بعد الوهن الشديد الذي لحق بسيادية واستقلالية قرار الدول التي مر بها الربيع العربي. وكذلك بعد سقوط مشروع إمداد الغاز التركي لأروبا عبر الأراضي السورية لتخليص أوربا من الارتباط بالغاز الروسي الذي يؤمن 40 % من احتياجاتها.
1 - انحسار داعش في سوريا والعراق والأمن القومي التونسي:
ما بقي مسكوتا عنه بعد سقوط الموصل مركز خلافة داعش وبعد انكفاء دائرة نفوذ الحركات التكفيرية في سوريا على حدود متاخمة ومحمية من الجيش التركي هو أين تبخر المقاتلون الذين كانوا يسيطرون تنظيميا وعسكريا على رقعة كبيرة من العراق وسوريا والذين نجحوا في كسر الحدود بين الدولتين وراكموا أموالا وثروات هائلة من بيع النفطين العراقي والسوري عبر تركيا؟ فلا يمكن ان يكونوا قد سقطوا كلهم موتى فأعدادهم كانت بالآلاف حيث لم يعلن الجيش العراقي ولا الجيش السوري عن عدد القتلى بعد استعادة الموصل واستعادة سيطرة الجيش السوري على جزء كبير من أراضيه؟؟
إذا أين ذهبوا وكيف اختفوا من الواجهة؟ وأين هي الآلات والمعدات العسكرية الثقيلة التي كانوا يواجهون بها الجيشين العراقي والسوري؟ وأين هي الأموال التي كانوا يديرون بها دولة بذلك الحجم؟
بعض الدراسات التي ينشرها معهد واشنطن تفيد بأن تنظيم داعش يدير الأموال التي بحوزته في مشاريع عقارية واستثمارية وفي وكالات السيارات وشركات صرف وشركات تحويلات الأموال التي يوجد عدد كبير منها في تركيا. كما يقدر البنتاغون ان ما بين 14 إلى 18 ألف مقاتل من تنظيم داعش لا يزالون بين سوريا والعراق. هؤلاء المقاتلون ليسوا كلهم عراقيين وسوريين فقط. فيهم الكثير من المقاتلين الأجانب. وبعد الانكسار الأخير في سوريا وانحسار مناطق نفوذهم تحولت استراتيجية التنظيم إلى ما يسميه د.محمد محمود مرتضى استراتيجية الأذرع المتعددة « التي تقتضي الاعتماد على نقاط ارتكاز يتم الانطلاق منها لتكون محورا للحراك في سائر دول المنطقة».
ويضيف « أما ليبيا التي كانت مركز تجميع وتدريب وانطلاق في المراحل السابقة، لدعم نشاط المركز في العراق والشام، فقد تحولت إلى إحدى الأذرع الأساسية في استراتيجية التنظيم بعد التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الساحة هناك. فقد رأى التنظيم في ليبا ساحة مؤاتيه تشبه الساحة العراقية عند انطلاق عمله.... فأخذ يتوسع فيها لتحقيق هدفين:
• أن تكون نقطة ارتكاز لذراع « الخلافة» في شمال إفريقيا والمغرب الإسلامي
• أن تكون عنصر إلهاء وتشتيت لقوى التحالف الدولي عبر توسيع بقعة عمله الجغرافي بما يخفف الضغط عن العراق وعن الشام.
وفي المحصلة، لن يسعى داعش للهجرة الجماعية كما حصل بعد إعلان الخلافة في سوريا والعراق بل سيعزز استراتيجية «الأذرع المتعددة « معتمدا على العناصر المحلية في كل منطقة والتحول إلى العمل الأمني الذي يقوم على حرب «النكاية» يلخصها مقال هارون زيلين من معهد واشنطن على انها الاعتداءات على قوات الأمن وإطلاق سراح السجناء وإلحاق الأذى بالعدو والظهور والاختفاء حسب الإرادة إلخ وهذا ما يفسر ما شهدناه في تونس من بعض العمليات العبثية – تفجير فتاة لنفسها في شارع الحبيب بورقيبة وذبح الراعي في جبال القصرين, الاعتداءات المتكررة على الأمنيين وقوات الجيش,
2 - ما يعنينا في تونس:
بعد انتخابات 2019 لا يخفى على أحد في تونس، تزايد الأصوات المطالبة بضرورة استعادة المقاتلين التونسيين من بؤر التوتر، كما أصبح معلوما قرار رجب طيب أردوغان إرجاع المقاتلين إلى بلدانهم الأصلية وهو ما يصب في جهود البلدان الأوروبية لتحقيق الرغبة نفسها عبر طرق متعددة خوفا من ان يتسرب هؤلاء عبر تركيا إلى أراضيهم وما يمكن ان يترتب عن ذلك من تهديد استقرارهم وأمنهم.
فهل نستطيع القول إن الجهود التي يبذلها صراحة بعض النواب المنتخبين حديثا، وغيرهم ممن طالبوا سابقا بضرورة استرجاع اللحم المنتن، باسترداد المقاتلين التونسيين من بؤر التوتر هي خدمة ومرحلة لتحقيق استراتيجية الأذرع المتعددة التي تعتمدها داعش في البلدان المتهيئة والرخوة والتي يمكن ان تعزز من حلم الخلافة في بلادنا؟ وهل يكون هؤلاء الغطاء السياسي والتشريعي وربما الأمني لإعادة هؤلاء في سبيل بناء منصة تكون مهيأة « لفتح « تونس وبلدان المغرب العربي؟؟؟؟ ألم يقل القرضاوي سابق ان تونس تحتاج إلى فتح جديد.
لا يمكن الحسم في هذا الجواب إلا إذا ثبت أن هناك التزامات سابقة لبعض الأطراف التونسية مع هذا الجيش من المقاتلين الذين خرجوا في وقت معين تحت أنظار الحكم والسلطة حتى بلغت أعدادهم عشرات الآلاف. كما لا يمكن الجزم بمسؤولية بعض الأطراف عن شبكات التسفير والتمويل إلا بعد ان تصل اللجنة البرلمانية المكلفة بالبحث في شبكات التسفير على نتائج تبني عليها مسؤولية من تورط في هذا الملف.
لكن التورط الأخلاقي لبعض الأطراف السياسية في هذا الملف كشفه كتاب هادي يحمد « كنت في الرقة، هارب من الدولة الإسلامية «. وآخر إحصائية نشرتها جمعية إنقاذ التونسيين العالقين بالخارج على صفحتها بتاريخ 15 ديسمبر 2019 تقدر عدد المقاتلين التونسيين في ليبيا بـ 1.500 فرد. ونحن لا نتحدث عن الذين لا يزالون في سوريا او في العراق او المختفين في تركيا وربما غيرهم من احتموا بقطر استعدادا للعودة بثوب جديد.
لكن الثابت الآن ان رجوع هؤلاء المقاتلين على تونس لا يمكن ان يكون منفصلا عن الرغبة في إيجاد أرضية محمية بالقانون لتمكين هؤلاء من بناء الذراع التونسية لداعش عبر العائدين من سوريا والعراق وليبيا وتكوين محور يتحركون فيه لإعادة إحياء «دولة الخلافة» التي سقطت في العراق ولم تنجح في سوريا.
كما نضيف ان العديد من نواب 2019 أصبحوا يطالبون برفع القيود الأمنية التي تتخذ في جميع بلدان العالم في مثل هذه الحالات وكذلك اعتبار المراقبة الإدارية اعتداء على حقوق الإنسان وكلنا نتذكر كيف تحولت نائبة عن حركة النهضة إلى مطار تونس قرطاج ونجحت في إخراج أحد الذين كانوا ممنوعين من السفر من مطار قرطاج رغما عن كل الأجهزة الأمنية وضربا للمنظومة الأمنية برمتها.
3 - من هنا تكوي... من هنا حامية:
على وقع الحرب الدائرة حاليا بين الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر وبين القوات الموالية للسراج للسيطرة على طرابلس، فالأمن القومي التونسي مهدد في الحالتين. وهذا طبعا نتيجة الاصطفاف الرسمي التونسي إلى جانب أحد أطراف النزاع وغياب السياسة الخارجية السليمة في التعامل مع الملف الليبي منذ البداية. وآخر معالم هذا الاصطفاف استقبال رئيس الجمهورية لفائز السراج الذي كان عائدا من تركيا بعد توقيع معاهدة الحماية وطلب التدخل العسكري مع انه كان يجب ان تحتج تونس على هذه الاتفاقية التي تهدد امنها واستقرارها. ولعل هذه المقابلة تذكرنا بمؤتمر أصدقاء سوريا الذي عقد في تونس في فيفري 2012 على بعد آلاف الكيلومترات من حدودنا والذي كان الإعلان الرسمي للحرب على سوريا لتدميرها وتمرير خط الغاز القطري إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. ومن كانوا رعاة لهذا المؤتمر أصبحوا الآن في كل مفاصل الدولة وعلى رأس أعلى مؤسساتها.
لو نجح حفتر والجيش الليبي في الدخول إلى طرابلس سيدخل هؤلاء المقاتلون التونسيون بكل الوسائل وخاصة التهريب هربا من التصفية والإعدام او من الملاحقة القضائية في ليبيا.
ولو نجحت حكومة السراج في البقاء – مسنودة بالتدخل العسكري التركي - ستصبح تونس مهددة بانتشار رقعة الحرب التي ستدخل فيها مصر- وربما الجزائر - آجلا ام عاجلا وسيتحول هؤلاء المقاتلين إلى خزان عسكري قوي ومدرب لا يتقن غير الحرب والقتل والتفجير يطمع في أن يستنسخ التجربة الليبية في محاربة الجيش والقوى الأمنية لملامسة السلطة بقوة النار والميليشيات. ربما تتحول حينها ليبيا إلى المنصة التي ينطلقون منها باتجاه تونس والجزائر والغرب الإسلامي كما يسمونه لإعادة الحريق السوري.
وتشكل تونس في ظل الانشطار السياسي وتذري السلطة ومؤسسات الدولة بين الفرقاء والعجز عن تشكيل حكومة وطنية في وقت وعقول وطنا مرشحا وموطئ قدم مثالي لبناء منصة داعش-تونس لإعادة بناء حلم الخلافة الذي انتهى في العراق وسقط في سوريا.
ولا يجب علينا أن نمحٌوَ من ذاكرتنا بن قردان في شتاء 2017 التي كانت المحاولة الأولى لبناء ذراع داعش التونسية وخلق ممر آمن بين ليبيا وتونس لولا تصدي القوات الأمنية والعسكرية ولولا الاستفاقة المواطنية التي تخيل هؤلاء الإرهابيون في لحظة معينة انها حاضنة شعبية مثالية لبناء إمارة في تونس. لكن صمود وجاهزية القوى الأمنية والعسكرية في تونس يمكن ان يتعرض للخرق عبر العمل السياسي والتشريعي وعبر التعيينات التي تتقاتل عليها الكتل البرلمانية علنا وليس سرا، وآخر هذه الاختراقات حصول كتلة ائتلاف الكرامة على لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح عوضا عن المتوقع وهو الحصول على لجنة الطاقة والثروات الطبيعية لأن حملتهم الانتخابية قامت على شعار «وينو البترول، وينو الملح».
وعلى عكس ما يروج كان لهذه الكتلة – بحكم عدد أعضائها- الأفضلية في اختيار اللجان، وعوض ان تطلب لجنة الطاقة – انسجاما مع خطابها الانتخابي – قفزت مباشرة إلى لجنة تنظيم القوات الحاملة للسلاح التي يرأسها محامي محتشد الرقاب والذي صدر في شأنه حكم بالسجن 20 شهرا من أجل الاعتداء على وكيل الجمهورية المكلف بملف محتشد الرقاب؟؟
لذلك على الشعب التونسي – بكل الوانه ومنظماته ونخبه ومؤسساته - ان يدافع عن وطنه بقطع النظر عن انتماءاته الحزبية والفكرية ويتصدى لكل من ينادي برجوع المقاتلين التونسيين – وهي تسمية لا تستقيم لأنهم ليسوا مقاتلين بل إرهابيين – وان يعتبر كل من ينادي برجوع هؤلاء القتلة والمرتزقة طرفا في مشروع توطين ذراع داعش في تونس وفق استراتيجية داعش لكل المنطقة تحت غطاء قانوني وسياسي لإحياء فكرة الخلافة.