الاتحاد المغاربي التاريخ المشترك والفرص الضائعة

بقلم: عبد الصمد بن شريف-كاتب وصحفي مغربي
لا شك أن رهان تجسيد الاتحاد المغاربي حقيقة ومؤسسات فاعلة في الواقع وفي حياة الناس، أخفق بشكل واضح ومؤلم، فعلى الرغم من كل المحاولات

والمساعي التي بذلت لتخطي هذا الوضع الجامد والشاذ، فإن المشهد نفسه ظل سائدا وصامدا في وجه طموحات الشعوب التي لم تتوقف عن المطالبة بقيام هذا الصرح، ووضع الصراعات السياسية والحساسيات ذات البعد الثنائي جانبا، لأنها تدرك جيدا أن مستقبلها ومصيرها باتا مرتبطين بتحقيق الاندماج والتعاون وحرية تنقل الأشخاص ورؤوس الأموال في كل الاتجاهات بما يسهم في انبثاق فضاء اقتصادي، من شأنه أن يشكل قوة دفع لاقتصاديات الدول المغاربية ويؤمن شروط الاستقرار السياسي والاجتماعي ويقف سدا منيعا في وجه الحركات الإرهابية والانفصالية ومختلف أشكال اليأس والتفكير العدمي.

من المسلم به ،أن الطريق إلى هذا المبتغى كان دائما محفوفا بالتوجس، وكل مبادرة تطلق في الاتجاه الإيجابي كانت تصطدم بإكراهات ومقاومات غير قابلة للتفسير المنطقي والفهم السليم. وهذا ما يجعل شعوب دول الاتحاد المغاربي غير راضية عن الاختيارات والسياسات التي تتبعها السلطات الحاكمة في دولها بأشكال متفاوتة ، لأن تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وتفاقم الأزمات وانسداد الآفاق وانهيار حزمة من الأحلام -خاصة بعد ثورة الياسمين في تونس وحركة 20 فبراير في المغرب- باتت حقيقة موجعة، كما أن الحركات الاحتجاجية في مختلف الدول، خصوصا ما تعيشه الجزائر من حراك شعبي منذ شهر فيفري الماضي والاستحقاقات الانتخابية في تونس وما أفرزته من نتائج وتداعيات مفاجئة ، و تصاعد المطالب الاجتماعية واتساع رقعة الاحتجاجات في المغرب ، كلها ديناميات ومؤشرات لا تكف عن دق ناقوس الخطر، وهي مسألة لا تقبل النفي والمزايدات والتوظيف السياسوي على المستوى الداخلي، لأن وجود مثل هذه الاحتجاجات وتناسلها مسألة صحية، ومؤشر على دينامية المجتمعات المغاربية ونشاطها، حيث أصبحت الحركات الاحتجاجية ممارسة يومية مألوفة، والاعتراف بوجودها لا يمس هيبة الدولة، ولا يبخس بعض لتدابير التي اتخذتها الحكومات لتحسين شروط العيش الكريم وضمانها، خاصة بالنسبة للشرائح الاجتماعية الهشّة التي تضرّرت من مختلف السياسات والإجراءات التي أملتها المؤسسات المالية العالمية، وأفضت إلى مأزق عويص.

ولا أحد في مقدوره أن ينفي أن مختلف الحكومات تواجه تحديات حقيقية وإكراهات جدية، في مقدمتها توفير فرص الشغل، وتمكين أجيال جديدة، قاعدتها الواسعة من الشباب، من شروط الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. وهذه الشريحة التي تقض مضاجع الماسكين بخيوط القرار في كل الدول المغاربية لم توضع في صلب السياسات العمومية، وباتت مرشحة للارتماء في أحضان سلوكاتٍ لا أحد يتكهن بمآلاتها، بما في ذلك اللجوء إلى التطرّف والعنف والعدمية، لا سيما في ظل عجز التنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية، وشتى مؤسسات الوساطة عن تأطير هذه الفئة التي لا تتبنّى بالضرورة أطروحات وإيديولوجيا الجيل الذي خاض معركة التحرير والاستقلال وساهم في بناء مؤسسات دولة الاستقلال ، ولا تستند إلى مرجعيات وتنظيمات مهيكلة ببرامج واضحة الأهداف والمقاصد والوسائل.وماحدث مؤخرا في الانتخابات الرئاسية التونسية خير دليل على ذلك
في هذا السياق، يمكن اعتبار سياسة اليد الممدودة من المغرب تجاه الجزائر تحولا جوهريا في قراءة (ومساءلة) الخسائر الاقتصادية والإنسانية والسياسية والاستراتيجية الجسيمة التي تكبدتها دول شمال أفريقيا، بسبب إجهاض قيام مشروع الاتحاد المغاربي. وقد شكل الموقف الذي أعلن عنه الملك محمد السادس، يوم 6 نوفمبر2018 ، حدثا تاريخيا بكل المقاييس، فقد أوضح بكامل المسؤولية «أن المغرب مستعد للحوار المباشر والصريح مع الجزائر، من أجل تجاوز مختلف الخلافات الظرفية والموضوعية المعيقة لتطور العلاقات بين البلدين الشقيقين». كما اقترح «إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور تشكل إطارا عمليا للتعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات، وهي آلية ستمكّن من إيجاد الأجواء المناسبة، وبعث روح الثقة بين الطرفين للعمل، من دون شروط وبعيدا عن أي استثناءات كيفما كان نوعها، وعلى بلورة منهجية مشتركة لدراسة جميع القضايا المطروحة، وخصوصا ما يتعلق بمحاربة الإرهاب وإشكالية الهجرة والتصحر وتحقيق الأمن الغذائي والاستثمار في مختلف المجالات الاقتصادية والتنموية».

وانتظرت كل ألوان الطيف السياسي والثقافي والإعلامي في المغرب تفاعلا سريعا ومسؤولا من السلطات الجزائرية، وأظهر الإعلام المغربي ،جرعة عالية من الحماس والأمل في تعاطيه مع الاقتراح الملكي، كما عبرت مختلف الأحزاب السياسة والنقابات عن تفاؤل غير مسبوق، وتوقعت أن يُقابل الموقف المغربي بموقفٍ مماثل في الجار الشرقي، ولم تتردد بعض الأحزاب في إصدار بلاغات مثمنة ومؤيدة لأية خطوة تنهي عقودا من القطيعة المأساوية بين بلدين وشعبين شقيقين. كما عبرت الأحزاب نفسها عن نيتها في التنسيق مع أحزاب جزائرية، لإطلاق مبادرات مشتركة بهدف الدفع بقطار المصالحة إلى الأمام.

وكان لافتا تنظيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مهرجانا سياسيا في مدينة وجدة الحدودية، في 7 ديسمبر2018 ، تحت شعار «المغرب والجزائر، قاطرة مستقبل البناء المغاربي»، بمبادرة من الوزير الأول السابق، الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي الذي قاد حكومة التناوب التوافقي من 1998 إلى 2002، والذي بحكم إسهامه الكبير في حركة المقاومة وجيش التحرير وعلاقاته الوطيدة مع قيادات جزائرية عديدة، لعبت دورا مهما في تعزيز روابط الإخاء والتعاون بين الشعبين، المغربي والجزائري. ومن هذا المنطلق، بادر إلى التفاعل مع نداء الملك محمد السادس، واختار مدينة وجدة التي احتضنت خلايا من الثورة الجزائرية، والتي ولد وأقام فيها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لسنوات، منصة لتوجيه رسائل إلى المتحكمين الفعليين في صناعة القرار السياسي في قصر المرادية في الجزائر، وإلى الأحزاب وكل مكونات المجتمع الجزائري، خاصة وأن السياق والمكان ينطويان على دلالاتٍ سياسية ورمزية متعدّدة الأبعاد، في ظرفية دولية وإقليمية، تتسم بتسارع التحولات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وبتغير موازين القوى على الصعيد الجيو-استراتيجي.

ومهما اختلف الفاعلون السياسيون في المنطقة بشأن تقييمهم لتعثر المساعي التي بذلت لنفخ الروح في هياكل الاتحاد المغاربي، وتحرير مؤسساته من الشلل الذي ألحق به أضرارا كبيرة، فإن مبادرة اليوسفي كانت نابعة من حكمه سياسية، ومن قراءة صادقة للواقع ووقائع التاريخ، لكونه ظل متمسكا بوحدة المسار والمصير التاريخي المشترك بين المغرب والجزائر.

وتشكل الاستعانة بدروس التاريخ وعبره، ومقتضيات الجغرافيا وحتمياتها، عنصرا أساسيا لا يمكن القفز عليه، في مقاربة أزمة العلاقات المغربية – الجزائرية، فالهدف من اختيار حزب الاتحاد الاشتراكي لمدينة وجدة مكانا لتنظيم مهرجان «المغرب والجزائر، قاطرة مستقبل البناء المغاربي» التذكير بالدور التاريخي والاستراتيجي الذي لعبته هذه المدينة في التلاحم الوثيق بين المغاربة والجزائريين، من أجل الدفاع عن المصالح المشتركة للشعبين منذ معارك التحرّر من الاستعمار. ومؤكد على أن سطوة التاريخ المحتقن ما زالت تستبد بعقول كثيرين من صناع القرار في الجزائر، كما أن صعوبة التغلب على سلطة ذاكرةٍ مشحونةٍ بحزمة من الصور النمطية والسلبية التي شكلت وقود الحرب النفسية والإعلامية بين البلدين لعقود تتطلب مبادرات شجاعة وقرارات تاريخية وحكيمة ذات حمولة استراتيجية، وعقلا سياسيا جماعيا ،يعي جيدا أن القدر المحتوم على المغاربة والجزائريين يكمن في العيش المشترك، والتواصل فيما بينهم، بالإنصات إلى بعضهم البعض، والتآزر في أوقات الشدة والفرح.

سياسة تبديد الآمال والإصرار على تأجيل فرص التقارب وطي صفحة الماضي دفعت فئات واسعة من المجتمع المغربي إلى عدم استبعاد وجود توجه داخل الجزائر يقف في وجه أية دعوة إلى المصالحة، وينتصر إلى خيار تسميم العلاقات الثنائية. وهذا يرجع -ربما- إلى وجود جماعات مصالح رافضة أي تطور إيجابي ووحدوي للعلاقات، وتحرص على تحصين امتيازاتها، ومنها ما له علاقة بشركات صناعة السلاح والاستثمارات النفطية، والذي يرى في أي تقارب بين البلدين فقدانا لسوق مربحة. وهناك من يغذي إيديولوجيا ضيقة، تعتبر التقارب مع المغرب تنازلا يجب التصدّي له. ولا تتردّد بعض المنابر الإعلامية في الجزائر في تقديم عملية فتح الحدود مكسبا للمغرب، ومصدر أضرار للجزائر مما يدل على أن هذه المنابر تتبنّى تيارا يسعى إلى إيقاظ الجراح، مستغلة في ذلك إثارة موضوع الصحراء المغربية، باعتباره موضوعا استعماريا. في وقتٍ شدد فيه المغرب على أن الملف يوجد بين يدي الأمم المتحدة، لإثبات صدق موقفه وحسن نيته في احتواء المشاكل والخلافات الثنائية ومعالجتها، وأيضا حتى لا يبقى المشروع المغاربي رهينة توتر العلاقات بين المغرب والجزائر وهذا ما طرحه عدد من المترشحين في الدور الأول للانتخابات الرئاسية التونسية عبر الأطوار الثلاثة للمناظرة التلفزية . أي بما يجعل شعار «المغرب والجزائر، وتونس قاطرة مستقبل البناء المغاربي» تاريخيا وواقعيا، يتمتع بالمصداقية في ظرفية دولية وإقليمية دقيقة.

ويمكن فهم التفاعل الكبير والجياش بين الجماهير المغربية والمنتخب الجزائري خلال منافسات كأس الأمم الافريقية الذي احتضنته جمهورية مصر العربية في الصيف الماضي وخروج هذه الجماهير في مسيرة تعبيرا عن غبطتها وإشادة بأداء المنتخب الجزائري لدليل قاطع على التداخل القوي بين الشعبين المغربي والجزائري ،كما هو الشأن بالنسبة للشعوب الأخرى في تونس وليبيا وموريتانيا .بل إن العاهل المغربي لم يتردد في بعث رسالة تهنئة إلى الرئيس الجزائري المؤقت، ليعبر من خلاله لمجموع الشعب الجزائري ،أصالة عن نفسه ونيابة عن شعبه عن ان فوز المنتخب الجزائري بالكأس الافريقية هو أيضا فوز للمغرب. ويسود اعتقاد قوي في المغرب بأن عملية التحول الديمقراطي في الجزائر إذا سارت في الطريق الصحيح ولم تتعرض لمحاولة اجهاض من أية جهة كانت من المرجح جدا أن تحدث تغييرا جوهريا وأساسيا في العلاقات الثنائية بين البلدين، وان تفتح أفقا جديدا لتناول مغاير ومتعقل لكل الملفات العالقة، وهذا من شانه ان ينعكس إيجابا على كل المنطقة المغاربية

وبالمنطق الاقتصادي وبلغة الأرقام، أوضحت دراسة أنجزها مؤخرا البنك الدولي أن منطقة المغرب العربي تظل الأقل اندماجا على مستوى العالم حيث تبلغ تجارتها البينية أقل من 5 في المائة من التجارة الكلية بين بلدان الاتحاد .وهي نسبة ضعيفة جدا ،وأقل من المستوى المسجل في كل التكتلات التجارية الأخرى حول العالم. وأظهرت نفس الدراسة، أنه في حال لوتحقق الاندماج وإلى حدود 2017، فإن الناتج المحلي المشترك للبلدان المغاربية سيصل إلى أكثر من 360 مليار دولار. وأن نصيب الفرد الواحد ، من إجمالي الناتج المحلي الإقليمي في مختلف دول المنطقة، من المتوقع أن يصل إلى أكثر من 4000 دولار أمريكي لو كان الاندماج حقيقة مجسدة على أرض الواقع.

دائما بلغة الأرقام ، تبلغ مساحة دول المغرب العربي حوالي 5.782.140 كلم2 وتشكل ما نسبته 42 % من مساحة الوطن العربي منها أكثر من 100ألف كلم 2 صالحة للزراعة .ويبلغ طول الشريط الساحلي للاتحاد حوالي 6505 كلم، أي 28 % من سواحل الوطن العربي. ويبلغ عدد سكان اتحاد المغرب العربي حوالي 100مليون نسمة أي ما نسبته 27 % تقريبا من إجمالي سكان الوطن العربي.

وكان من الممكن أن تجعل هذه المقدرات والمؤهلات والإمكانيات من اتحاد المغرب العربي لو تحقق الاندماج والتكامل بين دوله الخمس، أول اقتصاد وأول قوة ديمغرافية وعسكرية في القارة الإفريقية ، وكان سيكون لها تأثير قوي في الفضاء الأورو -متوسطي وعلاقات جنوب-جنوب والعالم .

إن الحتمية التاريخية والجغرافية، والضرورة الاقتصادية ،والتحديات والاكراهات الاجتماعية الضاغطة، والتداعيات الجيوسياسية جهويا وقاريا ودوليا، وصعود اليمين المتطرف وانتشار المد الشعبو بي في أوربا وغيرها ،واستفحال الخطاب الهوياتي الراديكالي وتفشي العنف والتطرف الديني والإرهاب بشتى أنواعه ،وتغول الليبرالية اقتصاديا، وهيمنة قيم استهلاكية متوحشة ،و تأثير الثورة الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي على تمثلات المجتمعات ،ودور هذه المنصات في إعادة تشكيل الوعي الجماعي لدي جيل بأكمله ،كلها تحديات واكراهات تدفع العديد من القوى السياسية والتنظيمات المدنية ومعاهد الدراسات إلى التفكير القلق في الوضع الجامد ،واقتراح بدائل عملية ،خاصة وأن آخر قمة مغاربية تعود إلى سنة 1994.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115