اللّعبة الدّيمقراطيّة، فهو يعكس أيضا عدم جاهزيّة النّخب السّياسيّة للتّفاهم والتّظافر وتوحيد الصّف. إذ يسود الاستئثار بالرّأي على حساب المصلحة الوطنيّة والاعتداد بالنّفس على حساب مصلحة الجماعة والأنانيّة على حساب المصلحة العامّة... وهي مآلات تتنافى وناموس الإجتماع السّياسي وضدّ منطق الدّولة، وفق مفاهيم الدّولة الحديثة منذ منظّري العقد الإجتماعي مع روسو أو مع هوبز، حيث وإن كان الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، في حالة الطّبيعة، إلاّ أنه بفضل الدّولة في حالة السّياسة ويصبح لأخيه شريكا. فلصالح من سيكون تشتّت الأصوات؟ إنّ تفتيت الكتل الإنتخابيّة لن يكون إلاّ تكريسا للإنقسامات التي قد تلقي بضلالها على جسم الدّولة وتصيبه بالتّصدّع على نحو متجدّد. لقد كان يمكن لهذا التّعدّد، وهو فضيلة ديمقراطيّة لا محالة، ألاّ يبقى حاجزا أمام إعادة الهيكلة وظهور رغبة الأفراد والتّنظيمات في الاتّحاد والتّنظّم من جديد، لو كان الظرف ملائما لذلك.
ولا ريب، ستكون البرامج المرفوعة ولا ريب هي نفسها بحسب مقتضيات المرحلة ورهاناتها وإملاءاتها. فنحن نمرّ بمشترك تاريخيّ يحتّم علينا جملة من التّحدّيات التي توحّد أغلبنا على مستوى الشاغل التّاريخي فتوحّد برامجنا وتطلّعاتنا بينما تفرّقنا اختياراتنا للأشخاص. إذ أن الماكينة الإنتخابيّة لا تشتغل بشكل متلائم مع آليّات المعيش التّاريخي، إنها تتحرّك وفق أمزجة الأفراد ولا وفق متطلّبات المشترك العام تحت سقف الدّولة. وتلك هي المفارقة، فالوعي السّياسي وإن كان نشيطا إلاّ أنّه قوّة جذب إلى الوراء، يتحرّك على عكس أهداف الدّولة والمقولات التي فرضت نفسها في الفترة الأخيرة من قبيل «التّوافق»، «الوفاق»، «المصالحة»، «المصارحة»، «الحوار»، «رأب التّصدّع»، «تقريب وجهات النّظر»... فمقتضيات المرحلة، تقتضي لدى الأغلبيّة عناوين وبرامج ملحّة وهي السّيادة، الأمن القومي، المساعدة على النّهوض الإقتصادي من خلال الإقتراح، التّنمية الإجتماعيّة والمحليّة، التشغيليّة... فمَن من المترشحين له من الجرأة حتّى يتنكّر أو يتغافل عن واحد من هذه الرّهانات؟ إنّ البرامج بالضرورة هي نفسها، فهي تتناسل من بعضها أو تُستنسخ، والحال أنّ المترشحين متعدّدون، ومن ثمّة يتعذّر التّمييز بين معظمهم، وتتشتّت الأصوات. وهكذا، يقتضي الأمر اختزال عدد التّرشحات وصهرها مع بعضها بناءً على قيمة الإشتراك في البرامج، حتّى تتدعّم التّرشحات وتتقوّى وتبلغ ذروة قدرتها التّمثيليّة.
لكنّ ذلك يتطلّب قدرا من الحكمة السّياسيّة ودرجة من نضج الوعي الوطني بما يقدّم المصلحة العامّة على المصالح الشخصيّة والحسابات الحزبيّة. ويبدو الآن أنّ ذلك شبيه بالأمر المستحيل في تونس كما في غيرها من الدّيمقراطيّات النّاشئة، ما دام الشغل الشّاغل للنّخب والأحزاب كيفيّة الوصول إلى السّلطة فقط بقطع الطّريق أمام الآخر الذي هو خصم وليس حليفا. وهو ما يمثل عاملا لإعادة إنتاج أسباب عودة الحشد الأوليغارشي من النّافذة. فكلّ مترشّح يعتبر نفسه مركز العالم، قد تكون له المعرفة ولكنّه يفتقد إلى قيم الإعتراف، وهي أساسيّة في السّياسة الذكيّة والنّاجعة.
ونعتبر أنّ مثل هذا الانزلاق طبيعيّ في غياب تجربة ديمقراطيّة ناضجة ذات مستندات تاريخيّة على الأرض، حيث وفي هذا الوضع إذ تتضخّم الذّات فإنها تبخس غيرها وتقصيه، وإذ تؤكّد نفسها فإنها تقصي الآخر بل وتسحقه سَحقا. وهو من وجهة نظر سيكولوجيّة، محاولة هذه الذّات لتصريف وِهَاماتها بخلق مبرّرات حضورها على الأرض، بعدما عاشته من ظواهر الإقصاء والنّفي والتّهميش لعقود من الزّمن. إنّها عمليّة تعويض (compensation) بلغة التّحليل النفسي. وهكذا، فالتّدافع «الطبيعي» الذي تشجّع عليه الدّيمقراطيّة في حَرفيّتها الشعاراتيّة، إنّما يفصح عن سذاجة في بنية التفكير السّياسويّ البدائيّ لدى النّخب وحتما لدى أغلب فرق النّاخبين أيضا. بل ولعلّها مرحلة «طبيعيّة» لا مندوحة عنها ولا مناص من المرور بها. وهي تتناسب مع مرحلة حبّ التّعارض وفرض الأنا الفرديّة لدى الطفل في سنواته الأولى وهو بصدد فرض هذه الأنا وتكوينها وحمايتها من التّماهي والانصهار في الأنات الأخرى لإخوانه أو أقربائه أو شركائه في المجتمع العائلي الصّغير.
أمّا نموّ الحسّ الوطني وتطوّر الخبرة السّياسيّة في النّظر إلى المصلحة العامّة في قادم السّنوات، فسوف لن يفضي إلى هذه الحماقات الطبيعيّة، حيث وكما في الدّيمقراطيّات المتقدّمة، سيؤول أمر الترشّح إلى اختزال المترشّحين في عدد محدود من اللاّعبين السّياسيّين وإجلاء الميدان من المتشابهين بعد إجلائه من الدّخلاء والطفيليّين من أصحاب الأمزجة الذين باسم الدّيمقراطيّة تراهم يفرضون شهواتهم في اللّعب والتّجريب و»التّهريج» والإستمتاع بالظهور أمام أجهزة التّصوير في «المهرجان» الإنتخابي...
وفعلا، إنّ مستوى الوعي السّياسي لدى هذه النّخب المتدافعة يعكس مستوى السّلوك السّياسي لدى العديد من الشرائح الشعبيّة ومدى انقساماتها التي قد تهدّد «الانتقال الدّيمقراطي السّلس» الذي تميّزت به تونس. وكان يمكن أن يكون العكس تماما، أي أن يكون الفكر السّياسي لدى النّخب، كمحرّكة في الفضاء العام ولاعبة فيه، مغذيا للجماهير، يؤطّرها ويقودها نحو حاجاتها وأهدافها ويرشدها نحو صلاحها... على نحو ما تقتضيه سيكولوجيّة القيادة. وبعض المرشحين لا وجود لهم يذكر في هذا الفضاء العام ولا تجربة ولا علاقة لهم بالشارع. بل وقد جاؤوا إلى السّياسة من تآمرهم على غيرهم، في النّزل السّياحيّة والمكاتب المغلقة والصّالونات العائليّة !
ولكن، مازالت الجماهير تعمل على تحكيم مرشّحيها على أساس معايير عاطفيّة، تعكس ترسّبات الوعي العشائري والجهويّاتي والمذهبي، هذا إن لم نذكر معيار الانتماء الدّيني ومعيار العمق الإيماني ! ومعايير أخرى سطحيّة تقوم على المظهر وطريقة النّطق (look and speech)... وهي معايير ترتدّ إلى مفهوم الرّئيس والأب الحنون والرّئيس كامل الأوصاف والإنسان الكامل والرّئيس الزّعيم، في الرّأسمال الرّمزي وغير ذلك ممّا يؤكّد حاجة النّاس إلى كيان أبوي (patri-arcal) باترياركالي يشمل مفاهيم الوطن/ الأب/ التّراث (patri-moine)، كيان يحقّق الخلاص، يبدّد عنهم غربتهم وحالة اليُـتم والفراغ المترسّبة رمزيّا في الثقافة العربيّة الإسلاميّة جرّاء موت الأب الرّوحي والمرشد والبطل والسّلطان والخليفة... منذ وفاة الرّسول. إنّهم يحمّلون الرّئيس ما لا طاقة له به، خصوصا بعد أن جرّده الدّستور سنة 2014 من عديد صلاحيّاته وحوّله إلى موظّف لدى الدّولة، له مهامّ حسّاسة، نعم، ولكنّها محدودة في هكذا نظام برلماني.
ولا ريب، إنّ الخبرة والمعرفة وسرعة اتّخاذ القرار والإلمام بميزان المصالح في الأوضاع الدّوليّة (عسكريّا وسياسيّا واقتصاديّا) أو الإحاطة بتفاصيل المصلحة الوطنيّة وبنفس القدر بعناصر المشهد الجيو- إستراتيجي الذي يتحرّك في العالم والقدرة على ربط الممارسة بالخطاب والإعتراف بالتّنوّع الثقافي والتعدّد الفكري في الحساسيّات واحترام الحريّات في ظلّ مدنيّة الدّولة، إذ الدّولة إنشاء مدنيّ بطبعه... لهي القيم المرجعيّة والمعياريّة في الإختيار وهي، بنفس القدر، أساس توحيد الرّؤى والتّصوّرات، بعيدا عن المحسوبيّة والتّعنّت والتّجاذب والبحث عن شيطنة الآخر، عوضا عن التّحاور معه. إذ يُفترض أن تكون الإنتخابات الرّئاسيّة محطّة جامعة، بحسب هذه المعايير، أكثر منها عامل تفريق. لكنّ فوضى الارتداد إلى مركز الأنا الضيّقة على حساب المشترك القيمي والتّاريخي ومقتضيات الرّاهن وغياب القدرة على إعادة التّنظم التّنسيقي هو ما يفسّر غياب التّفاهم وعدم تَحَـمّل الآخر وعدم التّفاعل والتّنسيق ما بين النّخب على قاعدة تقدير المصلحة العامّة وعدم تغليب المشترك. والنتيجة: مئات الأحزاب وآلاف مؤلّفة من المترشّحين إلى البرلمان وعشرات المترشحين إلى الرّئاسة.
حالة ديمقراطيّة، نعم، ولكنّها بدائيّة وغير ناضجة بعدُ تقوم على العزف المنفرد. فكلّ من هؤلاء تراه يعزف بمفرده سمفونيّة النّجاة، على جميع الآلات (حتى نستذكر مفهوم هارمونيّة جهاز الدّولة في جمهوريّة المفكّر الرّوماني شيشرون). أحيانا، نجد نفس الجهاز المفاهيمي بين من هو محسوب على طرف «اليمين» وبين من هو محسوب على طرف «اليسار» يردّده المترشحون بأعجوبة و«فهلوة» خطابيّة ممتعة ! مما جعل مرشّح اليمين يدافع عن مدنيّة الدّولة وعدم المساس بالحريّات ! ومرشّح اليسار يدافع عن الهويّة الدّينيّة وعدم المساس بالجوامع والمساجد ! وفي الاثناء، هناك تدفّق لافت للمستقلّين و«الوسطيّين» للخروج من هذه هذه التّصنيفات التقليديّة وفخاخ الإيديولوجيا ! وهو ما يؤكّد خيبة أمل الجماهير في الأحزاب وسلوك المتحزّبين الذين بافتقارهم إلى فكر حزبيّ جامع وثوابت نضاليّة، تراهم يقفزون بسرعة البرق بين الألوان والشعارات بحسب مصالحهم، متناسين الوعود التي وُجدوا على أساسها ولأجلها. فهل بإقدامهم على صناديق التّصويت يمكن لجموع المواطنين النّاخبين أن يتداركوا مزالق السّياسيين وأحزابهم؟ هل يوحّد النّاخب التّونسي ما فرّقته الأحزاب؟ ليس الأمر بسحر، لقد سبق للمواطن التّونسي أن قدّم دروسا لساسة البلد، في اللّحظة الحاسمة، ولكن بأيّة تعبئة وبأيّة معادلة؟ لعلّ أوّل ما يتوجّب التّخلّي عنه نهائيّا ومقاومته بشدّة هو فكرة العزوف عن التّصويت، أوّلا وقبل كلّ شيء ! والفرصة تاريخيّة وسانحة لكتابة المصير. وذلك أفق آخر للنّظر...
بقلم: خليل قويـعة