كواليس النات إمارة موناكو: المختبر الرقمي النموذجي لـ«هواوي»

بقلم: محجوب لطفي بلهادي
باحث مختص في التفكير الاستراتيجي
منذ أسابيع خلت كنت قد خصّصت سلسلة من الورقات البحثية حول الصراع الترامبي/الهواوي في مجال الجيل

الخامس للمواصلات 5G أشرت فيها الى بداية تشكّل فى الأفق لمعالم حرب باردة رقمية بين "المارد الصيني" و"العم سام".

في اللحظة التي توقّع فيها العديد من المراقبين أن يُخفّض قرار إدراج عملاق الاتصالات الصيني "هواوي" بالقائمة السوداء الأمريكية من سرعة القطار الصيني وفي غفلة من الجميع تصنع "هواوي" يوم 9 جويلية الماضي الحدث /الاختراق في الخاصرة الجنوبية للقارة العجوز بنجاحها في تغطية "إمارة موناكو" بالجيل الخامس للاتصالات لتكون أوّل دولة في العالم تتنفس 100 ٪ 5G بتقنية هواوي المتقدمة...

فان تسنّى للعديد من المدن الكبرى في العالم، في الآونة الأخيرة، الاستفادة من الجيل الخامس في شكل خدمات محدودة -en mode de services limités- فإنّ "هواوي" تمكّنت على طريقة الاستراتيجي Sun Tzu الموغلة في المناورة والدهاء من مراوغة "العمّ ترامب" بتحقيقها لاقتحام ناعم دون ضجيج لأحد الحصون الرمزية المنيعة بفرنسا: "إمارة موناكو"، الملكية الدستورية والدولة المعترف بعضويتها الكاملة بالمنتظم الأممي منذ سنة 1993...

بالتأكيد، في أوّل مناورة شطرنجية ذكية في مواجهة القرار الترامبي لم يكن اختيار "هواوي" لإمارة "موناكو" وليد صدفة بل فرضه عقل استشرافي - بالمناسبة كنت قد أشرت في إحدى مقالاتي السابقة الى شغف مؤسّس شركة "هواوي" الى حدّ الهوس بالفكر الاستراتيجي للمعلّم الكبير Sun Tzu - يشتغل وفق الأقوال المأثورة التالية:
"قم بالتعتيم على خططك كليل أعشى" ، "الانتصار فى المعارك ليس هو النجاح التام، النجاح التام هو أن تكسر مقاومة العدو دون قتال"، و"لا تطارد عدوا سريعا يكاد يطير، ولا تهاجم جنودا طبعهم حاد وعنيف".. هذا بالفعل النهج الذي بصدد تمثّله "هواوي" كأفضل ما يكون في إدارة الأزمة الراهنة...

1 - موناكو: من دولة 5G إلى مدينة «انترنت الأشياء» قريبا
لفهم ما جرى وما سيجري بعد يوم 9 جويلية الماضي يفترض التوقّف بشكل برقي عند بوّابة العلاقات الفرنسية/الصينية.. فنسق الاستثمارات الصينية في فرنسا عرف خلافا لبقية دول الاتحاد الاوروبي طفرة حقيقية خلال سنة 2018 بزيادة ناهزت 86 ٪ مقارنة بسنة 2017 وفق دراسة حديثة أعدّها المكتب الدولي للدراسات Backer McKenzie .. "هواوي" لم تشذ عن هذا التوجّه التصاعدي حيث ما انفكت على امتداد 17 سنة من تنويع وتطوير مفردات تموقعها في السوق الفرنسية إدراكا منها بمحورية فرنسا في التأثير على باقي الجسد الأوروبي، غير أن القرار الامريكي الأخير فرض على "هواوي" التعجيل بتفعيل خططها التوسعية البديلة داخل أوروبا قبل فوات الأوان، فكانت "إمارة موناكو" الأرض الموعودة لإطلاق الجيل الخامس من الاتصالات ...

"هواوي" ومن خلفها السلطات الصينية تعي جيدا أن "موناكو" ليست "فرنسا" كما يُعتقد بل جسم مستقل وفاعل يتعايش داخلها منذ قرون، فحتى محاولات "ديغول" العديدة لإخضاعها للنفوذ الفرنسي المباشر لم تفلح لتبقى "موناكو" دولة مستقلة بسيادة محدودة وفق معاهدة 2002.. تحظى بالعضوية الكاملة بالأمم المتحدة منذ سنة 1993.. بأسرة حاكمة متجذّرة في التاريخ لا تدّخر جهدا منذ سنة 1297 - تاريخ اعتلاء عائلة "غريمالدى" عرش موناكو - على تطوير الإمارة والدفاع عنها.. موقعها الجغرافي المتوسطي المتميز، مساحتها المحدودة جدا لا تتجاوز 2,02 كلم مربّع (ثاني أصغر دولة في العالم بعد الفاتيكان)، مكانتها المتقدمة فى جيوسياسة المال والأعمال بفضل نظامها الجبائي الخصوصي وعائداتها السياحية، تنظيمها الدوري لمسابقة Formule 1 ثالث تظاهرة رياضية عالمية بعد الألعاب الأولمبية وكأس العالم لكرة القدم الخ، عوامل وأخرى أسهمت الى حدّ بعيد من جعل "موناكو" بمثابة المختبر الرقمي المثالي "لهواوي" وأنموذج للمدن الذكية المستقبلية بعلامة صينية خالصة.. فتغطية موناكو بالكامل بـ 5G في مجالات النقل والأمن وغيرهما من الاستخدامات سيؤهلها في المدى المتوسط أن تتحوّل الى الدولة-الأنموذج "للانترنات الأشياء" في العالم.

فى معرض تعليقهما على الحدث صرّح المندوب الوزاري لموناكو المكلّف بالانتقال الرقمي فريدريك جينتا " أنه (5G) سيسمح لنا بإدخال حياتنا في العصر الرقمي..." قبل أن يضيف نائب رئيس "هواوي" غوو بينغ بان "موناكو أرض صغيرة ما يتيح لنا أن نجعل منها واجهة في بعض المجالات، خصوصا من خلال ربط تطوير الجيل الخامس بمشاريع المدينة الذكية، وسيشكل ذلك نموذجا لشركات اتصالات ودولا أخرى"...

2 - إمارة موناكو: أوروبا الميكروسكوبية
بالتدقيق في التركيبة الديمغرافية "لإمارة موناكو" التي لا يتجاوز عدد سكانها بالكاد 40 ألف نسمة نجدها تتميز بالتفرّد والتنوع في ذات الوقت.
- من حيث التفرّد فإنها تعدّ من الدول القليلة التي تعتمد ديناميتها الديمغرافية على العنصر الخارجي، باعتبار أن سكان "موناكو" الأصليين لا تتجاوز نسبتهم 27 ٪ من مجموع سكان الإمارة.
- أما التنوّع فيتمثل في انحدار غالبية مواطني الإمارة من أصول أوروبية يتقدمهم الفرنسيون بنسبة 26 ٪ ثم الايطاليون 14 ٪ والبقية تتوزع بين البريطانيين والألمان والبلجيكيين والسويسرين الخ ، تنوّع شديد جعلها تتشبه بأوروبا المجهرية أو الميكروسكوبية.
خصوصية ديمغرافية أضفت على الإمارة بعدا رمزيا واستراتيجيا اضافيا بالنسبة "لهواوي" ..فتركيز الجيل الخامس بالإمارة يتوقّع أن يكون له بفعل نظرية الدومينو Domino theory استتباعات على باقي الدول الأوروبية خاصة أن أوروبا تعي أن تطوير الجيل الخامس داخل أراضيها دون "هواوي" سيكبّدها 55 مليار أورو و18 شهرا من التأخير...

3 - موناكو : الخطوة الأولى فى "طريق الحرير الجديد"
تعود علاقة "هواوي" بإمارة موناكو الى سنة 2012 اكتسبت خلالها ثقة المشغل المحلي للاتصالات "موناكو تيليكوم" وتُوّجت بتوقيع عقد بين الطرفين في سبتمبر 2018 بموجبه تتعهد "هواوي" بتغطية الإمارة بالكامل بتكنولوجيا الجيل الخامس.. بعدها بستة أشهر فقط أدى الزعيم الصيني "شي جينبينغ" زيارة تاريخية للإمارة الأولى من نوعها، سبقتها بأيام إعلان ايطاليا انضمامها الى "مبادرة الحزام والطريق" الصينية (ستكون موضوع دراسة لاحقة) التي تُعرف أكثر لدى العموم باسم "طريق الحرير الجديد".. تواتر سريع وغير بريء للأحداث على ضفاف المتوسط من القارة العجوز جاء ليؤكّد بأنّ "خيار موناكو" L’option Monégasque تمّ طهيه على نار هادئة منذ سنوات خلت ...
فالمتمعّن الجيّد لخارطة "مبادرة الحزام والطريق" الصينية يتفطّن بأن "إمارة موناكو" ليست بمنأى عن مسارات طريق الحرير البحري من الخارطة الذي يبلغ مداه الى منتهى السواحل الجنوبية لايطاليا المتاخمة لشواطئ إمارة موناكو (للعلم فان موناكو تفصلها 16 كلم فقط عن ايطاليا والأسرة الأميرية الحاكمة نفسها تنحدر من أصول ايطالية)...
بعد هذا الحدث/الاختراق بات من المرجّح أن يظلّ تاريخ 9 جويلية الماضي محفورا فى ذاكرة "ترامب" كيف لا وهذا اليوم يوثّق لبداية مرحلة تاريخية مختلفة ستعرفها البشرية عمّا قريب، عنوانها البارز والمستفزّ : العولمة بنكهة "هواوية"!
wait and see !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115