ومقاطع الفيديو التى يصعب الاختيار فيما بينها.. والإيحاء أو النطق به يحيلك مباشرة الى القواميس الرقمية المشفّرة.. رديفا للقرصنة فى المخيال الجمعي.. يثير فينا الفضول والذعر فى نفس الوقت.. ندين من يمارسه فى العلن بنعته بأقبح النعوت ونتلذذ فى ممارسة طقوسه فى السرّ...
دون الخوض فى ظاهرة "الهاكرز" بين التنظير والممارسة - بالمناسبة سيكون موضوع سلسلة من الورقات البحثية القادمة - نشير فقط بأنّ "الهاكرز" الذي نقصده فى هذا المقال هو المستخدم العادي للحواسيب والهواتف الذكية الذي يدفعه الفضول وسلوكيات "التلصّص" Le voyeurisme الى اختراق الحدائق الخلفية الممنوعة للآخر...
أ- الاستعداد السلوكي القبلي للتلصّص والاختراق
قد لا تحتاج كثيرا لاستحضار نظريات "سيغموند فرويد" و "ألفرد أدلر" أو أن تكون ألمعيا فى مجال "سيكولوجيا الأفراد" لفهم المقصود بالاستعداد السلوكي القبلي، فمن منا لم تخامره فكرة التلصّص على خصوصيات الآخر بدءا بدائرته العائلية الضيقة ؟!
فالاجتماع البشري بأنماطه التواصلية المركّبة ضمن ثنائية السيطرة / الخضوع يفترض حدا أدنى من قاعدة بيانات كافية عن الآخر.. فالتعامل مع الصديق أو العدو لا يمكن أن يحقق شروط النجاعة بأبعادها المتعددة دون استيفاء المحدد الاستعلامي ( مشتقة من كلمة معلومة ) لأغراضه ومستوياته المطلوبة مما دفع بجميع الإمبراطوريات والدول منذ القدم الى مأسسة هذا النشاط ضمن كيانات تعرف بالأجهزة الاستخباراتية أو الاستعلامية دونها تخترق الأمم وتسقط الدول...
إلا أنه منذ انطلاق الثورة الرقمية نهاية القرن الماضي شهدت منظومة "الاستعلام والتجسّس" تغييرات بنيوية عميقة صيّرتها من دارة مغلقة circuit fermé محكمة التنظيم تختص بها حصرا كيانات ومؤسسات أمنية حكومية بعينها الى دارة مفتوحة circuit ouvert غارقة فى الفوضى يتنافس على إدارتها الى جانب الدول فاعلون خواص من أفراد ومجاميع منظمة وشركات خاصة ودوائر إعلامية ومخابر تفكير نافذة وأخرى تنتمي الى المجتمع المدني.. فبمجرد نقرة تمكّن الموظف المتعاقد السابق لوكالة الأمن القومي الامريكي "ادوارد سنودن" من الكشف عن تفاصيل أخطر برنامج تجسّس سيبرنى على الإطلاق Le programme PRISM.. وبمجرد تثبيت برمجية تجسّس على هاتف زميلك أو صديقتك تتمكن من رصد أنفاسهما صباحا مساءا ويوم الأحد...
بالفعل، نحن حيال شخصية استخبارية / تلصّصية بصيغة الجمع، يتنازع داخل أروقتها الباطنية الجميع ضد الجميع على شفط وتوظيف "المعلومة" كيفما وردت دون استيفاء المراحل المعروفة فى الجهد الاستخباراتي المنظم من جمع وتحليل وتدقيق وتهديف.. تحتل الأخبار الزائفة Fake newsالفايسبوكية منها على وجه الخصوص أعلى سلّم المصادر المعتمدة فى رصد ونقل الخبر خلافا للمتعارف عليه فى الأوساط الاستخبارية فى العالم، فيكفي لتغريدة تويترية غير موثوقة المصدر عن تعكّر الحالة الصحية لأحد الوجوه القيادية الحاكمة لدولة ما بأن تدفع بتغيير المعادلة السياسية بالكامل...
شخصية مستحدثة لا تحتاج الى بروفايل ضابط الاستخبارات التي ألفناها من سرعة بديهة وقدرة على التلون ورباطة جأش عالية فى مواجهة المواقف الحرجة بل يكفيها أن تنضبط لتعليمات حزمة من الخوارزميات المتطورة والبيانات المفهرسة والمخزنة فى مراكز معلوماتية ضخمة Les data center.. تعمل للحساب الخاص أو لحساب الغير وفق ما يقتضيه مؤشر محرار الأمزجة والمصالح .. قادرة على الضرب بقوة فى جميع الاتجاهات، ضررها يتخطى أفق الصندوق الأسود للدولة ليصيب الدوائر المجتمعية القاعدية (من أسرة وأصدقاء الخ) في مقتل...
فالصورة النمطية لرجل الاستخبارات السوبرمانى الذي يتحرك فى العتمة تهاوت دون رجعة بفعل الرقمنة ليصبح تاجر أو حلاق الحي الذي تثق فيه قادرا على تعقب اتصالاتك اليومية عن بعد دون عناء يذكر مستفيدا بما تتيحه شبكة الانترنات من منصّات للتلصص الاجتماعي تحت مسمى مخادع "شبكات للتواصل الاجتماعي" وتطبيقات تجسس عالية الكفاءة بأسعار زهيدة...
فى نفس الاتجاه تؤكد العديد من الدراسات النفسية بأن أدوات التجسس الرقمي المتاحة على الشبكة من مواقع تواصل وبرمجيات ضارة فتحت شهية التلصص الفطري الكامن فى دواخلنا الى أبعد حدود النهم مما أسهم فى تعقيد الظاهرة وخروجها تماما عن السيطرة.. فنجد السياسي بصدد النبش فى تاريخ خصمه المباشر عبر المواقع والمنتديات ومقاطع الفيديو علّه يعثر على "الخطيئة الأصلية"، والزميل الذي يمارس هواية التنصت على مكالمات زميله أو زميلته فى العمل، ورجل الأعمال وغيره الذي يتعرض الى الابتزاز المالي مقابل فك التشفير عن ملفاته الحساسة باستخدام برمجيات الفدية Ransomware التى تصنف اليوم كأبرز ظاهرة وبائية تجتاح الشبكة.. والأمثلة فى التلذذ الرقمى فى استباحة حرمة الآخر عديدة تكاد لا تنتهي...
فبموازاة "للآذان المترصدة" للأجهزة الاستخباراتية الالكترونية للدول عبر التجسّس على اتصالات الراديو والهاتف والانترنت فان عصر الرقمنة لم يتوقف لحظة منذ انطلاقه عن منح الأفراد والكيانات الغير حكومية مزيدا من مساحات للاستخبار والتجسّس يلعب المستخدم العادي أو لنقل "الملائكي" للانترنات - ان وجد - دورا محوريا فى توسيع مجالها الحيوي، حيث أجمعت جميع البحوث فى مجال السلامة المعلوماتية بان هذا الصنف من المستخدمين لازال يساهم بنسب عالية فى إنجاح عمليات الاختراق السيبرني بسبب جهله المطبق بأبجديات الحماية.. "فالتعري الرقمى" l’exhibitionnisme digital على قارعة "منصات التلصّص الاجتماعي" التي بلغت مستويات مخيفة فى بلادنا تجعل منك ومن عائلتك لقمة سائغة للمخترقين، وفتح رسالة الكترونية مشبوهة دون تروّ، واهمالك لإجراء التحديثات البرمجية اللازمة فى الوقت المناسب تعرض خصوصياتك الشخصية او المهنية للخطر وغيرها من العادات الرقمية السيئة...
ب- الرّافعة اللوجستية للتلصّص والاختراق
من الاستحالة بمكان أن يبلغ الاستعداد السلوكي القبلي للاختراق والتلصّص عند العامة مستويات مخيفة دون توفر رافعة لوجستية محرضة وفاعلة تتشكل أساسا من برمجيات خبيثة ومنصّات للتواصل الاجتماعي تحقق عائدات سنوية تقدر بمليارات الدولارات...
من المفارقات المثيرة للسخرية والفضول على حد السواء، أن هذه الرافعة تديرها شركات رقمية عملاقة جد محترمة وأخرى تزعم أنها متخصصة فى السلامة المعلوماتية ! تعرض "منتجاتها" دون أدنى حرج بأكبر البوابات الافتراضية مرفقة بمقاطع فيديو للإسناد والشرح والتسويق...
فتطبيقة "الفايسبوك" على سبيل المثال لا الحصر التي تستقطب أكثر من 2 مليار مستخدم عبر العالم، أسهمت من خلال عرضها التفاعلي التى تتحكم فيه حزمة من الخوارزميات الجد متطورة من الجيل الجديد للذكاء الاصطناعي (للإشارة فان فايسبوك تعدّ من ابرز المؤسسات العملاقة في مجال تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي فى العالم من خلال مؤسسة بحثية متخصصة فى الغرضFacebook Artificial Intelligence Research ) بشكل حاسم فى خلق بيئة مشجعة على الاستخبار والتجسس لدى عموم الناس.. فعلى مستوى الواجهة الفايسبوكية Interface يقدم "عالم زوكربيرغ المخادع" للمستخدم مجموعة من الآليات والمفاتيح الناعمة لاختراق خصوصيات الآخر منها :
- غياب آليات ناجعة للتدقيق فى الهوية الحقيقية - خاصة البيومترية منها - لصاحب الحساب، فتح الباب على مصراعيه لفتح حسابات وهمية Faux profil تستخدم على نطاق واسع للنيل من الأعراض و التحيّل وغيرها من الجرائم الالكترونية الخطيرة...
- يمكن لشخص ما لا تربطك به أية صلة من فتح جزء من صندوقك الفايسبوكى دون استئذان وذلك بمجرد إدخال اسمك الكامل فى خانة Retrouver des amis من حسابه الخاص !
- فى الصفحة الرئيسية "البروفايل" من حسابك الفايسبوكى يطلب منك إدخال تفاصيل عن حياتك العاطفية Situation amoureuse ولما لا تكون مرفقة ومدعمة بالصور والفيديوهات !
- فى إحدى زوايا صفحة Les fils d’actualité يقترح عليك "المنداف" الفايسبوكي أصدقاء جدد باعتبارهم أصدقاء افتراضيين لاصدقائك عملا بالقاعدة الممعنة في الساذجة les amis de mes amis sont mes amis
- إعلامك بشكل دوري غير مبرّر عن تحركات وأنشطة أصدقائك الفايسبوكيين فى خانة Notifications!
- بفعل الثغرات الأمنية الكبرى والمتكررة التى تعتريها هذه التطبيقة وما تخلفه سنويا من ملايين ضحايا الاختراق والتجسس، يثير أكثر من علامة استفهام حول مصداقية سياسات حماية الخصوصية المتبعة فى فايسبوك، هل هي حقا تبحث كما تسوّق له عن حماية أفضل لمستخدميها من مخاطر الاختراق والتجسس أم أنها تتبع استراتيجية خفية تهدف بالأساس الى التطبيع مع ثقافة الاختراق السيبرني ليصبح أمرا عاديا ؟
- الخ
أما بخصوص الشركات الخاصة العاملة فى مجال تصميم وتطوير البرمجيات الخبيثة من قرصنة واعتراض وتنصت ومسح وتحليل للبيانات الخ، فإنها علاوة عن ذلك توفر للمستخدم (حكومات وأفراد) واجهات استخدام Interfaces d’utilisation مبسّطة فى متناول الغير المختصين فى مجال الحاسوب، مرفقة بوسائط تفاعلية وشروح بيداغوجية تيسّر عمليات التدرب على تنفيذ مثل هذا الصنف من البرمجيات...
من بين الشركات الخاصة الرائدة فى هذا المجال نجد فى المقدمة الشركة البريطانية "جاما" تليها شركات أمريكية وايطالية وإسرائيلية.. جميعها تسوّق برامج تجسس تقوم بجمع البيانات باختلاف أنماطها سواء كانت رسائل أو صوتيات أو مرئيات تعمدنا عدم ذكرها بالاسم لكي لا نقدم لها دعاية إضافية...
فبيت القصيد - بصدره وعجزه - يؤشر بما لا يدع للشك بأنه بفعل الرقمنة المتوحشة التي شاركنا فى التأسيس لها دون أن ندري، نحن مقبلون على مرحلة رهيبة لا مكان فيها للخصوصية على الإطلاق !