قد يتبادر للذهن أنّ الخوض في هذا الموضوع بعد صدور القانون المحدث للمحكمة الدستورية منذ مدّة طالت وانقضت لم تعد فائدة فيه ولا ضرورة تقتضيه غير أنّه سرعان ما حضرني ما يقال في سياق الحكم المأثورة من أنّ :
إصلاح الخلل ولو بتأخير فيه ، أفضل بكثير من التمادي فيه .
كما أنّ بالغ أهميّة المحكمة الدستوريّة في بناء دولة تتلّمس خطاها على درب حداثة الديمقراطيّة أغرتني لأتخلّص ممّا تملّك صميمي واختلج كياني من ترّدد في الحديث في هذا الصدد تحدوني رغبة الفلاح في المساهمة ولو بجزء ضئيل في إزالة عراقيل إرساء هذه المحكمة. بالنظر لما هو موكول إليها من اختصاصات وصلاحيّات بالغة الأهميّة أسندت إليها دون سواها بمقتضى الدستور قد ترد في مجال التصور ضرورة الالتجاء إليها خلال هذه الفترة الدقيقة المتزامنة مع المواعيد الانتخابية التشريعيّة والرئاسيّة للاضطلاع بمهامها الرقابيّة والتعديليّة بين سائر سلطات الدولة عند الاقتضاء.
تجدر الإشارة في مجال ما يعنيني في حديثي هذا لما تضمنّته الفصول القانونيّة الآتية :
الفصل 118 من الدستور في فقرته الثانية : يعيّن كلّ من رئيس الجمهوريّة، ومجلس نواب الشعب ، والمجلس الأعلى للقضاء ، أربعة أعضاء ، على أن يكون ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون ، ويكون التعيين لفترة واحدة مدّتها تسع سنوات .
الفصل 124 من الدستور: " يضبط القانون تنظيم المحكمة الدستوريّة والإجراءات المتّبعة لديها والضمانات التي يتمتع بها أعضاؤها ".
الفصل 10 من القانون الأساسي عد 50 مؤرّخ في 03 ديسمبر 2015 يتعلّق بالمحكمة الدستوريّة : " يتمّ تعيين أعضاء المحكمة الدستوريّة تباعا من طرف مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء ورئيس الجمهوريّة وفقا للشروط المنصوص عليها بالفصلين 8 و 9 من هذا القانون مع السعي إلى احترام مبدإ التناصف ".
الفصل 14 من نفس القانون : " يسمّى أعضاء المحكمة الدستورية بأمر رئاسي ينشر بالرائد الرسمي للجمهوريّة التونسيّة.
لقد أوعز لي التذكير بمحتوى هذه الفصول ما بلغ لعلمي من تخيّل واعتقاد فئة لا يستهان بها من المعنيين والمهتمين بتعيين أعضاء المحكمة الدستوريّة عدم جواز تعيين كل من رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء 4 أعضاء لهذه المحكمة ما لم يسبق ذلك إنجاز مجلس نواب الشعب نفس هذه المهمّة استنادا لكون الفصل 10 المشار إليه من القانون المحدث للمحكمة الدستورية جعل مجلس نواب الشعب أوّل من أوكل إليه تعيين 4 أعضاء للمحكمة الدستوريّة يليه ثانيا المجلس الأعلى للقضاء ثمّ يختم هذه العمليّة رئيس الجمهوريّة وأنّه ليس بالإمكان المساس بهذا الترتيب .
بعد هذا الاستطراد أعود لأقول إنّ تبنّي هذا المنحى يظلّ مفتقرا لما يشهد له بالاعتبار للأسباب والاعتبارات الآتية :
• لئن كان الإغراق و الاستنتاج والتمحّل في تأويل النصوص القانونيّة غير مستساغ إذا كان في ذلك التأويل إغراق لهاته النصوص ، فانّ تصلب شرايين الفكر على ظاهر النصوص القانونية دون تمحيص وتدقيق في دلالة معانيها غير مستساغ هو الآخر لأنّه قد يهدر محتوى النصّ الذي قصده المشرّع وأراده منه ، لذلك يجب أن يكفل تأويل القانون غايته المنشودة ويحقّق نجاعته المقصودة .
• إذا سلمنا فرضا أنّنا على قاسم مشترك من فهم دلالة صياغة الفصل العاشر المحدث للمحكمة الدستوريّة كونها صياغة ترتيبيّة آمرة في تحديد الأولويّة للجهة المعنيّة بتعيين أعضاء المحكمة المذكورة = مجلس نواب الشعب = تأسيسا على ورودها في صدارة هذا الترتيب على نحو يحظر تخويل الجهة التي تليها أداء نفس هذه المهمّة ما لم يتهيّأ لسابقتها إتمام المأموريّة المنوطة بعهدتها .
فإنّه لا يستساغ إلاّ أن نكون كذلك على قاسم مشترك بخصوص وجوب استخلاص نفس هذه النتيجة من صياغة الفقرة الثانية من الفصل 118 من الدستور واعتبار أنّ الجهة الأولى التي خصّها الدستور هي = رئاسة الجمهورية = تفريعا على ورودها أيضا في صدارة ترتيب الجهات الموكول إليها تعيين أعضاء المحكمة الدستوريّة وهي التي يتوجّب أن تتولى هذا التعيين في مرحلة أولى دون سواها.
وقد يبدو لي أنّه لا حاجة للتذكير بما يتّسم بقناعة اليقين بشأن ما للأحكام الدستوريّة من علويّة مطلقة تجعلها تغلّب و تفوّق في مجال الاحتجاج و الاستدلال بها بالنسبة للنصوص القانونيّة الأخرى عند الاقتضاء.
• إنّ بداهة المنطق تأبى اعتقاد أن تكون إرادة المشرّع عند صياغته مقتضيات الفصل 10 من القانون المحدث للمحكمة الدستوريّة كانت الغاية منها وضع قاعدة آمرة ترتيبيّة للجهات المعنية بتعيين أعضاء هذه المحكمة يستوجب التقيّد بها ولا مجال لمخالفتها ضرورة أنّه يفترض أن يكون آنذاك هذا المشرّع مستحضرا ما اقتصر عليه الدستور بموجب فصله 124 بتكليفه بصلاحيّة ضبط تنظيم المحكمة الدستورية و الإجراءات المتّبعة لديها والضمانات التي يتمتع بها أعضاؤها دون سواها ، ذلك أنّ الدستور قد تناول بقيّة الأحكام المتعلّقة بهذه المحكمة والتي ينضوي في مجالها ما أورده الفصل 118 منه من تحديد لتركيبة المحكمة وكيفيّة تعيين أعضائها على نحو لم يخلف ريبا في معانيها ولا شكّا في دلالتها يعتريها ولم يبق واردا سوى إقرارها وتثبيتها ولا يستساغ بأيّ وجه من الأوجه مناهضتها ومخالفتها .
• ومن المؤكد أيضا أن يكون ماثلا في ذهن هذا المشرّع ما للأحكام والمقتضيات الدستوريّة من قداسة مرموقة ومكانة غير مسبوقة حيال جميع النصوص القانونية تجعله مسلما تسليما بما انتهى إليه واضع الدستور في فصله 18 بشأن عدم تنصيصه تنصيصا صريحا لأولوية لأيّ جهة كانت معنية بتعيين أعضاء المحكمة الدستوريّة تخوّلها في مرحلة أولى الانفراد دون سواها بمهمّة تعيين الأعضاء الراجعين لها ووجوب تريث غيرها إلى الانتهاء من المأموريّة الموكول إليها الاضطلاع بها إذ قد يكون لهذا المنحى الذي اتّخذه المشرّع التأسيسي في التسوية في أحقيّة هذه الجهات في تحديد الوقت المناسب والملائم لمباشرة مهامها مبرّراته ولهذا التوجه مسوغاته .
• ولعله من السديد المفيد الإشارة أنّ صدور مختلف التعيينات لأعضاء المحكمة الدستورية من الجهات المعنية بذلك بموجب أوامر رئاسية منفردة لا عيب فيها ولا خلل يعتريها ، "ذلك أنّ الأصل في الأمور الجواز والإباحة ما لم يقتض المنع نص صريح " علما أنّ هذه التسميات في الغرض المذكور من الإجراءات الضرورية التي تتوّلاها الجهات المختصة في أوقات مختلفة تقتضيها الضرورة عند الاقتضاء لاستكمال تركيبة المحكمة الدستورية بمكوناتها الثلاثة.
• فصفوة القول أنه إزاء وقوع فسح المجال لمجلس نواب الشعب دون سواه لتعيين أربعة أعضاء للمحكمة الدستورية " دون أن يكون لهذا التوجه أيّ مبرّر قانوني " وما آل إليه الإخفاق المتكرّر لهذا المجلس في إنجاز مهمته بسبب ما ساده من تجاذبات سياسية لم تكن محمودة العاقبة ، ترتّب عنه تأخير مفرط لم يعد بالإمكان تحمّله ، فإنّه من المستحسن تفاديا وتجنب لضياع مزيد من الوقت أن يبادر كلّ من رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء بتعيين أعضاء المحكمة الدستورية الراجعين لنظرهما ذلك أنّ هذا الموقف الضرورة تمليه والفائدة تقتضيه وهو أمر مباح ليس عليه جناح فالفصل 118 من الدستور ورد مطلقا في أحكامه لا قيد فيه ، و من المتواضع عليه فقها وقانونا أنّه إذا كانت عبارة القانون مطلقة جرت على إطلاقها، ولا لزوم ما لا يلزم في إمعان مزيد التأخير لانتظار مجلس نواب الشعب في إتمام مأموريّة ثبت مرارا و تكرارا فشله فيها
وقد يكون ذلك حافزا وداعيا لاستنهاض وحثّ الهمم ويجعل أعضاء مجلس نواب الشعب يتوفّقون في تعيين باقي أعضاء هذه المحكمة . فيقع التخلّي والعدول عن التوجّه لتعديل تشريعي يخوّل بمقتضاه انتخاب أربعة أعضاء للمحكمة بالحطّ من أغلبيّة انتخاب هؤلاء الأعضاء بثلثي أصوات أعضاء مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء إلى الأغلبيّة المطلقة لأصوات الناخبين المذكورين.
ولا أظّنه يغيب عن الذهن ما لهذا التعديل التشريعي من بالغ الخطورة في تقليص حظوظ ضمانات وجوب توفّر الكفاءة والاستقلالية والحياد والنزاهة في أعضاء المحكمة الدستوريّة إذ سيؤول ذلك من جهة إلى تخويل الأغلبيّة المسيطرة بالمجلس إلى انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية حسب مطلق مشيئتها وإهدار من ناحية أخرى مقتضيات ما ورد من الفصل 60 من الدستور المتضمّنة " أنّ المعارضة مكون أساسي في مجلس نواب الشعب، لها حقوقها التي مكّنتها من النهوض بمهامها في العمل النيابي وتضمن لها تمثيلية مناسبة وفاعلة في كل هياكل المجلس وأنشطته الداخلية والخارجية".
هذا ما عنّ لي إبداؤه من التصوّرات عسى أن تكون مفيدة فيحسن إتّباعها.
والله ولي التوفيق