كلّ الناس يشترون خبزا... في الحيّ، لنا عطّار صغير يبيع مواد غذائية وأشياء أخرى وخبزا. من ذاك العطّار، أنا والكثير مثلي نشتري خبزا، كلّ يوم.
في يوم مضى، في ظهيرة محرقة، كالعادة، ذهبت أشتري خبزا. في عائلتي، لا أحد غيري يمشي الى العطّار، يشتري خبزا. تلك هي العادة في بيتي. كذلك، تمّ توزيع المهامّ. ما كان شراء الخبز مهمّة شاقّة ولكن لا أحد غيري يفعل. أحيانا، أتي متأخّرا فلا أحد يسعى، يمشي الى العطّار. يشتري خبزا. أحيانا، أتغيّب. يومها، يبقى الكلّ في جوع. لا أحد يشتري خبزا. يومها، يحصل في البيت اضطراب. الكلّ في حيرة، يسأل عنّي ومتى أعود ومتى آتي بالخبز...
في ذاك اليوم، في الظهيرة، ذهبت الى العطّار في الحيّ. من حسن الحظ، حانوت العطّار قريب من البيت. ها هو يوسف كعادته واقفا يلبّي طلبات الحرفاء. ها هو كعادته يستمع الى آيات بيّنات من القرآن يرتّلها في التلفاز مرتّل. القرآن في المحلّ جالب للخير وللبركة. في تونس، في الصباح وفي العشيّة أحيانا، تلقى في الحوانيت جميعا وفي المقاهي أحيانا آيات من الذكر. لا أحد تراه خاشعا لما جاء من آيات وسور مختلفة. لا يتبيّن أحد ما يقوله المرتّل. لا أحد يسمع. الكلّ في شأنه يسعى. القرآن في الحوانيت فقط للبركة...
في ذاك اليوم، في حانوت يوسف، على غير العادة، هناك عياط وصخب. هناك جدال وأصوات ترتفع وأخرى تعلو. في بهو الحانوت لقيت تجمّعا... من عادتي حبّ الجدل وما يحصل بين الأفراد من صخب. ها أنا أقترب من الجمع، أصغي الى ما كان من قول ومن ردّ. هي عادة عندي كاشتراء الخبز وأشياء أخرى...
في الحقيقة، عندي عادات كثيرة منها السيء ومنها الحسن. ما يؤسفني هو أنّني، مع السنين، أصبحت للعادات عبدا... أنا اليوم عادات تعاد وتتكرّر... في كلّ مرّة ألقى جماعة تتصايح في أمر إلا واقتربت منها لأرى، لأعلم الأمر وأتبيّن الموضوع وما جاء من حجج وما كان من آراء مختلفة.
هذه المرّة، أنا مضطر الى سماع الجدل القائم، الى معرفة فحوى المعركة. كنت في الحانوت لأشتري خبزا، كان الكلام عاليّا، بفرنسيّة مكسّرة. هل هناك سائح، غريب، أكلته الدهماء فضاق ذرعا؟ اقتربت لأرى. في سمعيّ ثقل. كان الشجار بين العطّار يوسف وشابّ عتيّ، أسود. كان يوسف يقول وكلّه فخر وفي وجهه ازدراء وحمرة: «أنا أبيض. أنا أبيض... أمّا أنت فأنت «كحلوش»، لونك أسود. لونك فحم». كان يوسف في غيظ وجاء كلامه خليطا مستهجنا بين دارجة وبربريّة وأشياء أخرى. لا يحسن يوسف الكلام. لا أظنّه يفهم لغة خصمه. كان الشاب الاسود هو الآخر في حنق. يصرخ وفي صوته توتّر، يقول في فرنسيّة مهذّبة: «كلّنا أفارقة ولا فرق بين الأبيض والأسود... أنت أبيض ولكنّك لا تتبيّن. أظنّك لم تدخل الى مدرسة. أظنّك لم تتعلّم... في بلادي الكوت دي فوار، عديد التونسيين يعملون ولا أحد يمنعهم ولا أحد يقول شيئا... أنت لم تدخل قطّ مدرسة». ويعود يوسف ليؤكّد من جديد للشاب ولمن أراد سماعه أنّه أبيض. ها هو يمسك بجلد ذراعه يريه عاليّا، مبيّنا أنّه أبيض...
في عديد المرّات، في سوق أريانة وفي أماكن أخرى، شاهدت بعينيّ كيف يسخر التونسيون، من ملّة الشباب خاصّة، من الأفارقة السود. بسبب وبغير سبب، تراهم يتضاحكون، يسبّون، يقولون قولا سيئا. مرّة، في محطّة الوقود، رفض العون صبّ الوقود لصاحب سيّارة فخمة، فقط لأنّه أسود... أحيانا، يشدّ القلق بعضا من الشباب والصبية فيأتون عنفا ويضربون السود ويرمونهم بصاقا وحجرا..
في حانوت يوسف العطّار، شدّتني حميّة وانطلقت في فرنسيّة بهيّة أساند الشابّ الأسود. ألعن العنصريين. أبيّن ليوسف وما أظنّه أدرك البيان أنّنا جميعا أفارقة وأنّ الألوان لا تعني شيئا ولا فرق بين أسود وأبيض إلا بالعمل الصالح وبالتقوى الى غير ذلك من الكلام العام، المتداول، ذاك الذي تلقاه في الخطب وفي المناسبات الأخرى ولا تراه أبدا أو نادرا في ما نفعل من فعل...